( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) . .
كذلك . فما يحسب للإنسان إلا كسبه وسعيه وعمله . لا يزاد عليه شيء من عمل غيره . ولا ينقص منه شيء ليناله غيره . وهذه الحياة الدنيا هي الفرصة المعطاة له ليعمل ويسعى . فإذا مات ذهبت الفرصة وانقطع العمل . إلا ما نص عليه حديث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في قوله : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : من ولد صالح يدعو له . أو صدقة جارية من بعده . أو علم ينتفع به " . . وهذه الثلاثة في حقيقتها من عمله . ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي - رحمه الله - ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم . ولهذا لم يندب إليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولو كان خيرا لسبقونا إليه . وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء . فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما . .
قوله جلّ ذكره : { أَلاََّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ للإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى } .
الناسُ في سَعْيِهم مختلِفون ؛ فَمَنْ كان سعيُهُ في طلب الدنيا خَسِرت صفقتُه ، ومن كان سعيُهُ في طَلَبِ الجنة ربحت صفقته ، ومن كان سعيُهُ في رياضة نَفْسِه وصل إلى رضوان الله ، ومَنْ كان سعيُه في الإرادة شَكَرَ اللَّهُ سَعْيَه ثم هداه إلى نَفْسِه .
وأمَّا المُذْنِبُ - فإِذا كان سعيُهُ في طلب غفرانه ، ونَدَمِ القلبِ على ما اسودَّ من ديوانه ، فسوف يجد من الله الثوابَ والقربة والكرامة والزلفة .
ومَنْ كان سَعْيُه في عَدِّ أنفاسِه مع الله ؛ لا يُعَرِّج على تقصير ، ولا يُفَرِّط في مأمور فسيرى جزاءَ سَعْيهِ مشكوراً في الدنيا والآخرة ، ثم يشكره بأَنْ يُخاطِبَه في ذلك المعنى بإِسماعهِ كلامَه من غير واسطة : عبدي ، سَعْيُك مشكور ، عبدي ، ذَنْبُكَ مغفور .
39-40-41- { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى } .
أي : وجاء في صحف إبراهيم وموسى ، عليهما السلام ، أن الإنسان لا يجني إلا ثمرة ما عمل ، فهو لا يعاقب على ذنب ارتكبه غيره ، ولا يكاف4أ إلا على عمل قد قام به ، وسعي قد سعاه .
وقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غير إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب غيره { وَأَنْ } كأختها السابقة ، و { مَا } مصدرية وجوز كونها موصولة أي ليس له إلا سعيه ، أو إلا الذي سعى به وفعله ، واستشكل بأنه وردت أخبار صحيحة بنفع الصدقة عن الميت ، منها ما أخرجه مسلم . والبخاري . وأبو داود . والنسائي عن عائشة «أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم » وكذا بنفع الحج .
أخرج البخاري . ومسلم . والنسائي عن ابن عباس قال : «أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أختي نذرت لأن تحج وأنها ماتت فقال النبي عليه الصلاة والسلام : لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم قال : فحق الله أحق بالقضاء » وأجيب بأن الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعاً فكأنه بسعيه ، وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز ، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه ، وأجيب أيضاً بأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه من الايمان فكأنه سعيه ، ودل على بنائه على ذلك ما أخرجه أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة وأن هشاماً ابنه نحر حصته خمسين وأن عمراً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : «أما أبوك فلو كان أقرّ بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك » وأجيب بهذا عما قيل : إن تضعيف الثواب الوارد في الآيات ينافي أيضاً القصر على سعيه وحده ، وأنت تعلم ما في الجواب من النظر ، وقال بعض أجلة المحققين إنه ورد في الكتاب والسنة ما هو قطعي في حصول الانتفاع بعمل الغير وهو ينافي ظاهر الآية فتقيد بما لا يهبه العامل ، وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله تعالى : { والله يضاعف لِمَن يَشَاء } [ البقرة : 261 ] فقال : ليس له بالعدل إلا ما سعى وله بالفضل ما شاء الله تعالى فقبل عبد الله رأس الحسين ، وقال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم . وموسى عليهما السلام ، وأما هده الأمة فللإنسان منها سعي غيره يدل عليه حديث سعد بن عبادة «هل لأمي إذا تطوعت عنها ؟ قال صلى الله عليه وسلم : نعم » وقال الربيع : الإنسان هنا الكافر ، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره ، وعن ابن عباس أن الآية منسوخة بقوله تعالى : { والذين ءامَنُواْ واتبعتهم } [ الطور : 12 ] وقد أخرج عنه ما يشعر به أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ ، وابن جرير . وابن المنذر . وابن مردويه ، وتعقب أبو حيان رواية النسخ بأنها لا تصح لأن الآية خبر لم تتضمن تكليفاً ولا نسخ في الأخبار . وما يتوهم جواباً من أنه تعالى أخبر في شريعة موسى . وإبراهيم عليهما السلام أن لا يجعل الثواب لغير العامل ثم جعله لمن بعدهم من أهل شريعتنا مرجعه إلى تقييد الأخبار لا إلى النسخ إذ حقيقته أن يراد المعنى ، ثم من بعد ذلك ترتفع إرادته ، وهذا تخصيص الإرادة بالنسبة إلى أهل الشرائع فافهمه ، وقيل : اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان غير سعيه ، وهو بعيد من ظاهرها ومن سياق الآية أيضاً فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلاً وأكدى ، والذي أميل إليه كلام الحسين ، ونحوه كلام ابن عطية قال : والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله سبحانه : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ للإنسان } فإذا حققت الشيء الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا لم تجده إلا سعيه وما يكون من رحمة بشفاعة ، أو رعاية أب صالح ، أو ابن صالح ، أو تضعيف حسنات ، أو نحو ذلك فليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوّز ، وإلحاق بما هو حقيقة انتهى .
ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذا جعل ثواب عمله أي عمل كان لغيره لا يجعل ويلغو جعله غير تام ؛ وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لا تلحق الأموات وهو مذهب الإمام مالك بل قال الإمام ابن الهمام : إن مالكاً . والشافعي لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة بل غيرها كالصدقة والحج ، وفي «الأذكار » للنووي عليه الرحمة المشهور من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل ، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنها تصل ، فالاختيار أن يقول القارىء بعد فراغه اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان ، والظاهر أنه إذا قال ذلك ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلان بقلبه كفى ، وعن بعضهم اشتراط نية النيابة أول القراءة وفي القلب منه شيء ، ثم الظاهر أن ذلك إذا لم تكن القراءة بأجرة أما إذا كانت بها كما يفعله أكثر الناس اليوم فإنهم يعطون حفظة القرآن أجرة ليقرءوا لموتاهم فيقرءون لتلك الأجرة فلا يصل ثوابها إذ لا ثواب لها ليصل لحرمة أخذ الأجرة على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه كما حققه خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ محمد الأمين بن عابدين الدمشقي رحمه الله تعالى ، وفي «الهداية » من كتاب الحج عن الغير إطلاق صحة جعل الإنسان عمله لغيره ولو صلاة وصوماً عند أهل السنة والجماعة ، وفيه ما علمت ما مرّ آنفاً .
وقال الخفاجي : هو محتاج إلى التحرير وتحريره أن محل الخلاف العبادة البدنية هل تقبل النيابة فسقط عمن لزمته بفعل غيره سواء كان بإذنه أم لا بعده حياته أم لا فهذا وقع في الحج كما ورد في الأحاديث الصحيحة ، أم الصوم فلا ، وما ورد في حديث «من مات وعليه صيام صام عنه وليه » وكذا غيره من العبادات فقال الطحاوي : إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ وليس الكلام في الفدية وإطعام الطعام فإنه بدل وكذا إهداء الثواب سواء كان بعينه أو مثله فإنه دعاء وقبوله بفضله عز وجل كالصدقة عن الغير فاعرفه انتهى فلا تغفل .
{ وأنَّ ليس للإنسان إلا ما سعى } : أي من خير وشر ، وليس له ولا عليه من سَعي غيره شيء .
* وأن ليس للإِنسان من ثواب يوم القيامة إلا ما سعى في تحصيله بنفسه وهذا لا يتعارض مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح " إذا مات ابن آدم انقطع مله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم ينتفع به " إذ هذه الثلاثة أمور من عمل الإِنسان وسعيه الولد انجبه ورباه .
قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي : عمل ، كقوله : { إن سعيكم لشتى }( الليل-4 ) وهذا أيضاً في { صحف إبراهيم وموسى }( الأعلى-19 ) . وقال ابن عباس : هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة ، بقوله : { ألحقنا بهم ذريتهم }( الطور-21 ) فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء . وقال عكرمة : كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى ، فأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم ، لما روي أن امرأة رفعت صبياً لها فقالت : يا رسول الله ألهذا حج ؟ قال : " نعم ولك أجر " . وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم . وقال الربيع بن أنس : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) يعني الكافر ، فأما المؤمن فله ما سعى وما سعي له . قيل : ليس للكافر من الخير إلا ما عمل هو ، فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير . ويروى أن عبد الله بن أبي كان أعطى العباس قميصاً ألبسه إياه ، فلما مات أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفنه فيه ، فلم يبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها .
ولا يقدح فى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى . . . } معطوف على ما قبله ، لبيان عدم إثابة الإنسان بعمل غيره ، إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب سواه .
أى : كما أنه لا تحمل نفس آثمة حمل نفس اخرى ، فكذلك لا يحصل الإنسان إلا على نتيجة عمله الصالح ، لا على نتيجة عمل غيره .
فالمراد بالسعى فى الآية . السعى الصالح ، والعمل الطيب ، لأنه قد جاء فى مقابلة الحديث عن الأوزار والذنوب .
قوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي لا يحصل للإنسان من الأجر إلا ما فعله هو لنفسه . وقد استدل الإمام الشافعي ( رحمه الله ) من هذه الآية أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأن ذلك ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ( رضي الله عنهم ) ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه . والقربات إنما يقتصر فيها على النصوص ولا يستند فيها على الآراء الأقيسة . أما الدعاء والصدقة فقد أجمعوا على وصولهما إلى الموتى وقد نص الشارع على ذلك . أما ما رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أوصدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به " . فهذه الثلاثة إنما هي من سعي الإنسان ومن كده وعلمه وقد جاء في الحديث : " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه " وإن ولده من كسبه ، والصدقة الجارية هي أثر من آثاره ، وكذلك العلم الذي نشره وعمل الناس بمقتضاه ، هو أيضا من سعيه وعلمه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأن ليس للإنسان} في الآخرة {إلا ما سعى} يعني إلا ما عمل في الدنيا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى "فإن من قوله: "ألاّ تَزِرُ" على التأويل الذي تأوّلناه في موضع خفض ردّا على «ما» التي في قوله "أمْ لَمْ يُنَبّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى" يعني بقوله: "ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" غيرها، بل كل آثمة فإنما إثمها عليها...
وإنما عُنِي بقوله: "ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" الذي ضَمِن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة، يقول: ألم يُخْبَرْ قائل هذا القول، وضامن هذا الضمان بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب: أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها "وأنْ لَيْسَ للإنْسانِ إلاّ ما سَعَى" يقول جلّ ثناؤه: أوَ لم يُنَبأ أنه لا يُجازى عامل إلاّ بعمله، خيرا كان ذلك أو شرّا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يشبه أن يكون قوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} أي ليس على الإنسان إلا ما سعى، لأنه، جل، وعلا، يثيب، ويعطي الزيادة على ما سعى بفضله وكرمه كقوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] ونحو الصغار الذين لا سعي لهم قد يعطيهم الثواب بفضله. وأما جواز السيئة فإنه لا يكون إلا بالمثل كقوله تعالى: {فلا يُجزى إلا مثلها} [الأنعام: 160] وجائز أن يكون: له بمعنى عليه في اللغة كقوله عز وجل: {إن أحسنتم أحسنتُم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7] أي فعليها. ويحتمل أن تكون الآية في أولئك الكافرين الذين نزل فيهم قوله تعالى: {ألاّ تزِر وازرة وِزر أخرى} يقول: ليس لذلك الإنسان إلا ما سعى...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
معناه: إن سعى في الخير يلق الخير، وإن سعى في الشر يلق الشر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلاَّ مَا سعى} إلا سعيه. فإن قلت: أما صح في الأخبار: الصدقة عن الميت، والحج عنه، وله الإضعاف؟ قلت: فيه جوابان؛
أحدهما: أن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً صالحاً وكذلك الإضعاف كان سعى غيره كأنه سعى نفسه، لكونه تابعاً له وقائماً بقيامه.
والثاني؛ أن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال عكرمة: كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمة فلها سعي غيرها، والدليل حديث سعد بن عبادة قال: يا رسول الله هل لأمي إن تطوعت عنها؟ قال: نعم. وسأل عبد الله بن طاهر بن الحسين والي خراسان الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله: {والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261] فقال ليس له بالعدل إلا ما سعى، وله بفضل الله ما شاء الله، فقبل عبد الله رأس الحسين. وقال الجمهور: الآية محكمة. والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو في اللام من قوله: {للإنسان} فإذا حققت الشيء الذي هو حق الإنسان يقول فيه لي كذا لم يجده إلا سعيه، وما بعد من رحمة ثم شفاعة أو رعاية أب صالح أو ابن صالح أو تضعيف حسنات أو تغمد بفضل ورحمة دون هذا كله فليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو له حقيقة. واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته ببدن ولا مال. وفرق بعض العلماء بين البدن والمال، وهي عندي كلها فضائل للعامل وحسنات تذكر للمعمول عنه. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً بالصدقة عن أمه. والسعي: التكسب.
{إلا ما سعى} معناه العمل يقال: سعى فلان أي عمل، ولو كان كما ذكرتم لقال: إلا ما سعى فيه نقول على الوجهين جميعا: لا بد من زيادة فإن قوله تعالى: {ليس للإنسان إلا ما سعى} ليس المراد منه أن له عين ما سعى، بل المراد على ما ذكرت ليس له إلا ثواب ما سعى، أو إلا أجر ما سعى، أو يقال: بأن المراد أن ما سعى محفوظ له مصون عن الإحباط فإذن له فعله يوم القيامة {ما سعى} مبقى على حقيقته معناه له عين ما سعى محفوظ عند الله تعالى ولا نقصان يدخله ثم يجزى به كما قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}.
المسألة الثانية: أن {ما} خبرية أو مصدرية؟ نقول: كونها مصدرية أظهر بدليل قوله تعالى: {وأن سعيه سوف يرى} أي سوف يرى المسعى، والمصدر للمفعول يجيء كثيرا يقال: هذا خلق الله أي مخلوقه.
المسألة الثالثة: المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة أو بيان كل عمل، نقول: المشهور أنهما لكل عمل فالخير مثاب عليه والشر معاقب به والظاهر أنه لبيان الخيرات يدل عليه اللام في قوله تعالى: {للإنسان} فإن اللام لعود المنافع وعلى لعود المضار تقول: هذا له، وهذا عليه، ويشهد له ويشهد عليه في المنافع والمضار، وللقائل الأول أن يقول: بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل كجموع السلامة تذكر إذا اجتمعت الإناث مع الذكور، وأيضا يدل عليه قوله تعالى: {ثم يجزيه الجزاء الأوفى} والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة، وأما في السيئة فالمثل أو دونه العفو بالكلية.
المسألة الرابعة: {إلا ما سعى} بصيغة الماضي دون المستقبل لزياد الحث على السعي في العمل الصالح وتقريره هو أنه تعالى لو قال: ليس للإنسان إلا ما يسعى، تقول النفس إني أصلي غدا كذا ركعة وأتصدق بكذا درهما، ثم يجعل مثبتا في صحيفتي الآن لأنه أمر يسعى وله فيه ما يسعى فيه، فقال: ليس له إلا ما قد سعى وحصل وفرغ منه، وأما تسويلات الشيطان وعداته فلا اعتماد عليها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتعريف {الإِنسان} تعريف الجنس، ووقوعه في سياق النفي يفيد العموم، والمعنى: لا يختص به إلا ما سعاه.والمراد هنا عمل الخير بقرينة ذكر لام الاختصاص وبأن جعل مقابلاً لقوله: {ألا تزر وازرة وزر أخرى} [النجم: 38]. والمعنى: لا تحصل لأحد فائدة عَمل إلا ما عمله بنفسه، فلا يكون له عملُ غيره، ولام الاختصاص يرجح أن المراد ما سَعاه من الأعمال الصالحة، وبذلك يكون ذكر هذا تتميماً لمعنى {ألا تزر وازرة وزر أخرى}، احتراساً من أن يخطُر بالبال أن المدفوع عن غير فاعله هو الوزر، وإنّ الخير ينال غيرَ فاعله. ومعنى الآية محكي في القرآن عن إبراهيم في قوله عنه: {إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 89]. ومعنى الآية محكي في القرآن عن إبراهيم في قوله عنه: {إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 89].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«السعي» في الأصل معناه السير السريع الذي لا يصل مرحلة الركض، إلاّ أنّه يستعمل غالباً في الجدّ والمثابرة، لأنّ الإنسان يؤدّي حركات سريعة في جدّه ومثابرته سواءً كان ذلك في الخير أو الشرّ! والذي يسترعي الانتباه أنّ القرآن لا يقول: وان ليس للإنسان إلاّ ما أدّى من عمل.. بل يقول: إلاّ ما سعى. وهذا التعبير إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يجدّ ويثابر فذلك هو المطلوب منه وإن لم يصل إلى هدفه، فالعبرة بالنيّة، فإذا نوى خيراً أعطاه الله ثوابه، لأنّ الله يتقبّل النيّات والمقاصد لا الأعمال المؤدّاة فحسب.