يقول ، تبارك وتعالى ، منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج ، وهم الأنصار ، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام ، وكانت بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل : بنو قينقاع . وبنو النضير حلفاء الخزرج . وبنو قريظة حلفاء الأوس . فكانت الحرب إذا نشبت{[2106]} بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ، فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهوديّ الآخرُ من الفريق الآخر ، وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه ، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب ، عملا بحكم التوراة ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ولهذا قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي : لا يقتل بعضكم بعضًا ، ولا يخرجه من منزله ، ولا يظاهر عليه ، كما قال تعالى : { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ]
وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " .
[ وقوله ]{[2107]} { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أي : ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دياركم ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } .
تفنن الخطاب هنا فجاء على نسق ما قبل الآية السابقة ، إذ عبر هنا عن جميع بني إسرائيل بضمير الخطاب على طريق التغليب لأن المخاطبين حين نزول القرآن هم المقصودون من هذه الموعظة أو على طريق تنزيل الخلف منزلة السلف كما تقدم ، لأن الداعي للإظهار عند الانتقال من الاستطراد إلى بقية المقصود في الآية السابقة قد أخذ ما يقتضيه فعاد أسلوب الخطاب إلى ما كان عليه .
والقول في { لا تسفكون } كالقول في { لا تعبدون إلا الله } [ البقرة : 83 ] والسفك الصب . وإضافة الدماء إلى ضمير فاعل { تسفكون } اقتضت أن مفعول { تسفكون } هو دماء السافكين وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه أو يخرج نفسه من داره لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبيعي فليس من شأن الشريعة الاهتمام بالنهي عنه ، وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره على حد قوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي فليسلم بعضكم على بعض .
فوجه إضافة الدماء إلى ضمير السافكين أن هذه الأحكام المتعلقة بالأمة أو القبيلة يكون مدلول الضمائر فيها مجموع الناس ، فإذا تعلقت أحكام بتلك الضمائر من إسناد أو مفعولية أو إضافة أرجع كل إلى ما يناسبه على طريقة التوزيع وهذا كثير في استعمال القرآن ونكتته الإشارة إلى أن المغايرة في حقوق أفراد الأمة مغايرة صورية وأنها راجعة إلى شيء واحد وهو المصلحة الجامعة أو المفسدة الجامعة ، ومثله قوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] ومن هذا القبيل قول الحماسي الحارث بن وعلة الذهلي :
قومي هم قتلوا أُميم أخي *** فإذا رميت يصيبني سهمـي
فلئن عفوت لأعفون جللا *** ولئن سطوت لأوهنن عظمي
يريد أن سهمه إذا أصاب قومه فقد أضرَّ بنفسه وإلى هذا الوجه أشار ابن عطية وسماه اللف في القول ، أي الإجمال المراد به التوزيع ، وذهب صاحب « الكشاف » إلى أنه من تشبيه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين فإذا قتل المتصل به نسباً أو ديناً فكأنما قتل نفسه وهو قريب من الأول ومبناه على المجاز في الضمير المضاف إليه في قوله : { دماءكم } و { أنفسكم } .
وقيل : إن المعنى لا تسفكون دماءكم بالتسبب في قتل الغير فيقتص منكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم بالجناية على الغير فتنفوا من دياركم ، وهذا مبني على المجاز التبعي في { تفسكون } و { تخرجون } بعلاقة التسبب .
وأشارت هذه الآية إلى وصيتين من الوصايا الإلهية الواقعة في العهد المعروف بالكلمات العشر المنزلة على موسى عليه السلام من قوله : « لا تقتل ، لا تشته بيت قريبك » فإن النهي عن شهوة بيت القريب لقصد سد ذريعة السعي في اغتصابه منه بفحوى الخطاب .
وعليه فإضافة { ميثاق } إلى ضمير المخاطبين مراعى فيها أنهم لما كانوا متدينين بشريعة التوراة فقد التزموا بجميع ما تحتوي عليه .
وقوله : { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } مرتب ترتيباً رتبياً أي أخذ عليكم العهد وأقررتموه أي عملتم به وشهدتم عليه فالضميران في { أقررتم وأنتم تشهدون } راجعان لما رجع له ضمير { ميثاقكم } وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم . وجملة { وأنتم تشهدون } حالية أي لا تنكرون إقراركم بذلك إذ قد تقلدتموه والتزمتم التديُّن به .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.