ثم تدركها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها ! فتسأل في صراحة : كيف ?
( قالت : أنى يكون لي غلام ، ولم يمسسني بشر ، ولم أك بغيا ? ) . . هكذا في صراحة . وبالألفاظ المكشوفة . فهي والرجل في خلوة . والغرض من مباغتته لها قد صار مكشوفا . فما تعرف هي بعد كيف يهب لها غلاما ? وما يخفف من روع الموقف أن يقول لها : ( إنما أنا رسول ربك )ولا أنه مرسل ليهب لها غلاما طاهرا غير مدنس المولد ، ولا مدنس السيرة ، ليطمئن بالها . لا . فالحياء هنا لا يجدي ، والصراحة أولى . . كيف ? وهي عذراء لم يمسسها بشر ، وما هي بغي فتقبل الفعلة التي تجيء منها بغلام !
ويبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لأن يهبها غلاما إلا الوسيلة المعهودة بين الذكر والأنثى . وهذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري .
{ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا } أي : فتعجبت مريم من هذا وقالت : كيف يكون لي غلام ؟ أي : على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ، ولست بذات زوج ، ولا يتصور مني الفجور ؛ ولهذا قالت : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا } والبغي : هي الزانية ؛ ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي .
{ قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر } ولم يباشرني رجل بالحلال ، فإن هذه الكنايات إنما تطلق فيه ، أما الزنا فإنما يقال فيه خبث بها وفجر ونحو ذلك ويعضده عطف قوله : { ولم أك بغيا } عليه وهو فعول من البغي قلبت واوه ياء وأدغمت ثم كسرت الغين اتباعا ولذلك لم تلحقه التاء ، أو فعيل بمعنى فاعل ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة أو للنسب كطالق .
فلما سمعت مريم ذلك واستشعرت ما طرأ عليها استفهمت عن طريقه وهي لم يمسها بشر بنكاح ولم تكن زانية . و «البغي » المجاهرة المنبهرة في الزنا فهي طالبة له بغوى على وزن فعول كبتول وقتول ولو كانت فعيلاً لقوي أن يلحقها هاء التأنيث فيقال بغية{[7927]} .
قولها { ولم أكُ بغيّاً } تبرئة لنفسها من البغاء بما يقتضيه فعل الكون من تمكن الوصف الذي هو خبر الكون ، والمقصود منه تأكيد النفي فمفاد قولها { ولم أكُ بغيّاً } غير مفاد قولها { ولم يَمْسَسني بَشَر } ، وهو مما زادت به هذه القصة على ما في قصتها في سورة آل عمران ، لأن قصتها في سورة آل عمران نزلت بعد هذه فصح الاجتزاء في القصة بقولها { ولم يَمْسَسني بَشَر } .
وقولها { ولم يَمْسَسني بَشَر } أي لم يَبْننِ بي زوج ، لأنها كانت مخطوبة ومراكنة ليوسف النجار ولكنه لم يبن بها فإذا حملت بولد اتهمها خطيبها وأهلها بالزنى .
وأما قولها { ولَمْ أكُ بَغِياً } فهو نفي لأن تكون بغياً من قبل تلك الساعة ، فلا ترضى بأن ترمى بالبغاء بعد ذلك . فالكلام كناية عن التنزه عن الوصم بالبغاء بقاعدة الاستصحاب ، والمعنى : ما كنت بغيّاً فيما مضى أفأعدّ بغياً فيما يستقبل .
وللمفسرين في هذا المقام حيرة ذكرها الفخر والطيبي ، وفيما ذكرنا مخرج من مأزِقها ، وليس كلام مريم مسوقاً مساق الاستبعاد مثل قول زكرياء { أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً } [ مريم : 8 ] لاختلاف الحالين لأن حال زكرياء حال راغب في حصول الولد ، وحال مريم حال متشائم منه متبرىء من حصوله .
والبغِيّ : اسم للمرأة الزانية ، ولذلك لم تتصل به هاء التأنيث ، ووزنه فعيل أو فعول بمعنى فاعل فيكون أصله بَغوي . لأنه من البغي فلما اجتمع الواو والياء وسكن السابق منهما قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء الأصلية وعوض عن ضمة الغين كسرة لمناسبة الياء فصار بغي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.