اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ وَلَمۡ أَكُ بَغِيّٗا} (20)

{ قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } إنما تعجبت مما بشَّرها جبريلُ ؛ لأنَّها قد عرفت بالعادة أنَّ الولادة لا تكونُ إلاَّ من رجُلٍ ، والعاداتُ عند أهل المعرفةِ معتبرةٌ في الأمُور ، وإن جوَّزنا خلاف ذلك في القدرة ، فليس في قولها هذا دلالةٌ على أنَّها لم تعلمْ أنَّه تعالى قادرٌ على خلق الولد ابتداءً ، وكيف ، وقد عرفت أنَّه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدِّ ؛ ولأنَّها كانت منفردةً بالعبادة ، ومن يكونُ كذلك ، لا بُدَّ أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك .

فإن قيل : قولها { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } كافٍ في المعنى ، فلم قالت : { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } فالجوابُ{[21490]} من وجهين :

أحدهما : أنها جعلت المسَّ عبارة عن النِّكاح الحلال ؛ لأنَّه كنايةٌ عنه قال تعالى : { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] والزِّنَا ، إنما يقال فيه : فجر بها ، أو ما أشبهه .

والثاني : أن إعادتها ؛ لتعظيم حالها ؛ كقوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] وقوله تعالى : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . فكذا هاهنا : إن من لم تعرف من النِّساء بزوجٍ ، فأغلظ أحوالها ، إذا أتت بولدٍ : أن تكُون زانيةً ، فأفردت ذلك البغْي بعد دخوله في الكرم ؛ لأنَّه أعظُم ما في بابه .

قوله تعالى : { بَغْيًّا } : في وزنه قولان :

أحدهما -وهو قولُ المبرِّد- أنَّ وزنه " فُعُولٌ " والأصل " بَغُويٌ " فاجتمعت الياء ، والواو ، [ ففعل فيه ما هو معروفٌ ]{[21491]} ، قال أبو البقاء{[21492]} : " ولذلك لم تلحق تاءُ التأنيث ؛ كما لم تلحقْ في صبُور وشكور " ونقل الزمخشريُّ عن أبي الفتح في كتابه " التمام " أنها فعيلٌ ، قال : " ولو كانت فُعولاً ، لقيل : بغُوٌّ ، كما يقال : فلان نهُوٌّ عن المنكر " ولم يعقبه بنكير ، ومن قال : إنها " فَعِيْلٌ " فهل هي بمعنى " فَاعِل " أو بمعنى " مَفْعُول " ؟ فإن كانت بمعنى " فاعل " فينبغي أن تكون بتاء التأنيث ؛ نحو : امرأةٌ قديرةٌ وبصيرةٌ ، وقد أجيب عن ذلك : بأنها معنى النَّسب ؛ كحائضٍ وطالقٍ ، أي ذات بغي ، وقال أبو البقاء{[21493]} ، حين جعلها بمعنى " فَاعِل " : " ولم تلحقِ التاءُ أيضاً ؛ لأنها للمبالغةِ " فجعل العلة في عدم اللحاقِ كون للمبالغة ؛ وليس بشيءٍ ، وإن قيل بأنَّها بمعنى " مَفْعُول " فعدمُ الياءِ واضحٌ .


[21490]:ينظر: الفخر الرازي 21/170.
[21491]:في أ: فأدغمت الواو في الياء.
[21492]:ينظر: الإملاء 2/112.
[21493]:ينظر: المصدر السابق.