مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ وَلَمۡ أَكُ بَغِيّٗا} (20)

قوله تعالى :{ قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أنها إنما تعجبت بما بشرها جبريل عليه السلام لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداء وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحد ولأنها كانت منفردة بالعبادة ومن يكون كذلك لا بد من أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك .

المسألة الثانية : لقائل أن يقول قولها : { ولم يمسسني بشر } يدخل تحته قولها : { ولم أك بغيا } فلماذا أعادتها ومما يؤكد هذا السؤال أن في سورة آل عمران قالت : { رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء } فلم تذكر البغاء والجواب من وجوه : أحدها : أنها جعلت المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله : { من قبل أن تمسوهن } والزنا ليس كذلك إنما يقال فجر بها أو ما أشبه ذلك ولا يليق به رعاية الكنايات . وثانيها : أن إعادتها لتعظيم حالها كقوله : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } وقوله : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } فكذا ههنا إن من لم تعرف من النساء بزوج فأغلظ أحوالها إذا أتت بولد أن تكون زانية فأفرد ذكر البغاء بعد دخوله في الكلام الأول لأنه أعظم ما في بابه .

المسألة الثالثة : قال صاحب «الكشاف » البغي الفاجرة التي تبغي الرجال وهو فعول عند المبرد بغوي فأدغمت الواو في الياء ، وقال ابن جني في كتاب «التمام » هو فعيل ولو كان فعولا لقيل بغوا كما قيل نهوا عن المنكر .