33- يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين فاخرجوا ، لا تستطيعون الخروج إلا بقوة وقهر ، ولن يكون لكم ذلك{[214]} .
ثم قال : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ } أي : لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره ، بل هو محيط بكم ، لا تقدرون على التخلص من حكمه ، ولا النفوذ عن حكمه فيكم ، أينما ذهبتم أحيط بكم ، وهذا في مقام المحشر ، الملائكة محدقة بالخلائق ، سبع صفوف من كل جانب ، فلا يقدر أحد على الذهاب { إِلا بِسُلْطَانٍ } أي : إلا بأمر الله ، { يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ . كَلا لا وَزَرَ . إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 10 - 12 ] . وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ يونس : 27 ] ؛
ولهذا قال : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ } .
يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من الله فارين من قضائه فانفذوا فاخرجوا لا تنفذون لا تقدرون على النفوذ إلا بسلطان إلا بقوة وقهر وأنى لكم ذلك أو إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا ما في السموات والأرض فانفذوا لتعلموا لكن لا تنفذون ولا تعلمون إلا ببينة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم .
واختلف الناس في معنى قوله : { إن استطعتم أن تنفذوا } الآية ، فقال الطبري ، قال قوم : في الكلام محذوف وتقديره : يقال لكم { يا معشر الجن والإنس } ، قالوا وهذه حكاية عن حال يوم القيامة في { يوم التنادّ } [ غافر : 32 ] على قراءة من شدد الدال{[10831]} . قال الضحاك : وذلك أنه يفر الناس في أقطار الأرض ، والجن كذلك ، لما يرون من هول يوم القيامة ، فيجدون سبعة صفوف من الملائكة قد أحاطت بالأرض ، فيرجعون من حيث جاؤوا ، فحينئذ يقال لهم : { يا معشر الجن والإنس } . وقال بعض المفسرين : بل هي مخاطبة في الدنيا . والمعنى : { إن استطعتم } الفرار من الموت ب { أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض } . وقال ابن عباس المعنى : إن استطعتم بأذهانكم وفكركم أن تنفذوا فتعلموا علم أقطار السماوات والأرض . والأقطار : الجهات .
وقوله : { فانفذوا } صيغة الأمر ومعناه التعجيز ، والسلطان هنا القوة على غرض الإنسان ، ولا يستعمل إلا في الأعظم من الأمر والحجج أبداً من القوي في الأمور ، ولذلك يعبر كثير من المفسرين عن السلطان بأنه الحجة . وقال قتادة : السلطان هنا الملك ، وليس لهم ملك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {يا معشر الجن والإنس} قد جاء آجالكم، فهذا وعيد من الله تعالى، قال: {إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار} يعني من قطري {السماوات والأرض} يقول: أن تنفذوا من أطراف السماوات والأرض هربا من الموت {فانفذوا لا تنفذون} يعني لا تنفذوا {إلا بسلطان} يعني إلا بملكي حيثما توجهتم فثم ملكي، فأنا آخذكم بالموت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِنْ أقْطارِ السّمَوَاتِ والأرْضِ فانْفُذُوا"؛ اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السموات والأرض، فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم، فجوزوا ذلك، فإنكم لا تجوزونه إلا بسلطان من ربكم، قالوا: وإنما هذا قول يقال لهم يوم القيامة. قالوا: ومعنى الكلام: سنفرغ لكم أيها الثقلان، فيقال لهم: "يَا مَعْشَرَ الجِنّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِنْ أقْطَار السّمَواتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا"...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض، فانفدوا هاربين من الموت، فإن الموت مُدرككم، ولا ينفعكم هربكم منه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا... لن تعلموه إلا بسلطان، يعني البينة من الله جلّ ثناؤه...
وقال آخرون: معنى قوله: "لا تَنْفُذُونَ": لا تخرجون من سلطاني...
وأما الأقطار فهي جمع قُطْر، وهي الأطراف.
وأما قوله: "إلاّ بسُلْطانٍ" فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه؛
فقال بعضهم: معناه: إلا ببينة...
وقال آخرون: معناه: إلا بحجة...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلا بملك وليس لكم ملك...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: إلا بحجة وبينة، لأن ذلك هو معنى السلطان في كلام العرب، وقد يدخل الملك في ذلك، لأن الملك حجة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: كأنه لو مكّن لكم النفاذ من أقطار السماوات والأرض ونواحيها، فانفذوا، فتجدوا هنالك، وتروا من آيات من كذّب بالرسل صلى الله عليهم وسلم وما حل بهم بالتكذيب. ثم قال: {لا تنفذون إلا بسلطان} أي لا تنفذون، لو مكّن لكم من النفاذ، إلا تجدون حجج من أهلك منهم ظاهرة أنه بم أهلكهم؟...
والثاني: على الإعجاز أي لا تستطيعون أن تخرجوا أو تنفذوا من أقطار السماوات والأرض، ولو مكن لكم من النفاذ والخروج منها لوجدتم ثم سلطاني وحججي وملكي هنالك قائما، أي لا تقدرون على الخروج من سلطاني وملكي حيثما كنتم بل حيثما سرتم وكنتم [فأنتم] في سلطاني وملكي، فلا تتخلصون من الموت والهلاك...
وقال بعضهم: يبعث الله تعالى ملائكة عند الحشر، فيحيطون بالدنيا، فلا يستطيع شيطان ولا إنس ولا جان [يكون في أقطارها] أن يخرج من الأقطار، ولو خرجوا كانوا في سلطان الله...
وقيل: {إلا بسلطان}... وقال بعضهم: إلا بقدرة الله تعالى،...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فانفذوا} صيغة الأمر، ومعناه التعجيز.
المسألة الثانية: المعشر الجماعة العظيمة.
المسألة الرابعة: ما الحكمة في تقديم الجن على الإنس هاهنا وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله}؟ نقول: النفوذ من أقطار السماوات والأرض بالجن أليق إن أمكن، والإتيان بمثل القرآن بالإنس أليق إن أمكن، فقدم في كل موضع من يظن به القدرة على ذلك.
المسألة الخامسة: ما معنى: {لا تنفذون إلا بسلطان}؟وتقديره ما تنفذون وإن نفذتم ما تنفذون إلا ومعكم سلطان الله...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والنفوذ: الخروج من الشيء بسرعة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِلا بِسُلْطَانٍ} أي: إلا بأمر الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
: {يا معشر} أي يا جماعة فيهم الأهلية والعشرة والتصادق {الجن} قدمهم لمزيد قوتهم ونفوذهم في المسام وقدرتهم على الخفاء والتشكل في الصور بما ظن أنهم لا يعجزهم شيء {والإنس} أي الخواص والمستأنسين والمؤانسين المبني أمرهم على الإقامة والاجتماع...
{إن استطعتم} أي إن وجدت لكم طاعة الكون في {أن تنفذوا} أي تسلكوا بأجسامكم وتمضوا من غير مانع يمنعكم {من أقطار} أي نواحي {السماوات والأرض} التي يتخللها القطر لسهولة انفتاحها لشي تريدونه من هرب من الله من إيقاع الجزاء بينكم، أو عصيان عليه في قبول أحكامه... {فانفذوا} وهذا يدل على أن كل واحدة منها محيطة بالأخرى لأن النفوذ لا يكون حقيقة إلا مع الخرق...
{إلا بسلطان} إلا بتسليط عظيم منه سبحانه بأمر قاهر وقدرة بالغة وأنى لكم بالقدرة على ذلك.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا إعلان لهم بأنهم في قبضة الله تعالى لا يجدون منجىً منها، وهو ترويع للضالين والمضلّين من الجن والإِنس بما يترقبهم من الجزاء السيّء لأن مثل هذا لا يقال لجمع مختلط إلا والمقصود أهل الجناية منهم فقوله: {يا معشر الجن والإنس} عام مراد به الخصوص بقرينة قوله بعده {يرسل عليكما شواظ} [الرحمن: 35] الخ.: {فانفذوا} والأقطار: جمع قُطر بضم القاف وسكون الطاء وهو الناحية الواسعة من المكان الأوسع...وذكر السماوات والأرض لتحقيق إحاطة الجهات كلها تحقيقاً للتعجيز، أي فهذه السماوات والأرض أمامكم فإن استطعتم فاخرجوا من جهة منها فراراً من موقفكم هذا، وذلك أن تعدد الأمكنة يسهل الهروب من إحدى جهاتها...
.وجملة {لا تنفذون إلاَّ بسلطان} بيان للتعجيز الذي في الجملة قبله فإن السلطان: القدرة، أي لا تنفذون من هذا المأزق إلا بقدرة عظيمة تفوق قدرة الله الذي حشركم لهذا الموقف، وأنَّى لكم هاته القوة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان33}،وإذا أصبح في إمكان الإنسان أن يجول بين بعض {أقطار السماوات والأرض}، وداخلها فإن ذلك لا ينفي أنه عاجز كل العجز عن أن يتجاوزها ويفارقها ويخرج منها بالمرة، وذلك هو "النفاذ منها".
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
حاول البعض تفسير كلمة السلطان بالعلم عند صعود الإنسان إلى القمر، على أساس أن هذا الحدث أثبت إمكانية نفاذ الإنسان إلى خارج نطاق الأرض، وأن الآية لا تنفي إمكان ذلك، بل تربطه بالسلطان الذي يمثل القوّة التي تفتح كل المواقع العصية المستعصية.. وبذلك يكون هذا الاختراق الإنساني للأرض منطلقاً من إمساك الإنسان بزمام قوّة العلم. ولكن هذا التوهُّم ناشىءٌ من عدم التدقيق في فهم جوّ الآية التي تريد أن تؤكد شمولية ملك الله للسموات والأرض، وعدم قدرة الإنسان على النفاذ منهما إلى أفقٍ آخر خارج ملكه وقدرته، أمَّا استثناء السلطان، فإن الظاهر أن سياقه سياق التحدي في عدم وجود قدرةٍ على ذلك، مع ملاحظة أن الحديث هو عن النفاذ من أقطار السموات والأرض، مضافاً إلى أنّ الآيات التي تتحدث عن استراقّ الشياطين، الذين هم من الجن، للسمع على حدود السماء، تعني اختراق الجن للأرض؛ والله العالم.