قرأ{[54457]} : «سيفرغ » - بالياء - الأخوان ، أي سيفرغ الله تعالى . والباقون من السبعة : بنون العظمة ، والرَّاء مضمومة في القراءتين ، وهي اللغة الفصحى لغة «الحجاز » .
وقرأها مفتوحة الراء مع النون الأعرج{[54458]} ، ويحتمل وجهين{[54459]} :
أحدهما : أن يكون من «فَرَغَ » بفتح الراء في الماضي ، وفتحت في المضارع لأجل حرف الحَلْق .
والثاني : أنه سمع فيه «فَرِغَ » - بكسر العين - فيكون هذا مضارعه ، وهذه لغة «تميم » وقرأ عيسى{[54460]} بن عمر وأبو السمال : «سَنِفْرَغُ » - بكسر حرف المضارعة وفتح الراء . وتوجيهها واضح مما تقدم في «الفاتحة » .
قال أبو حاتم : هذه لغة سفلى «مضر » .
والأعمش وأبو حيوة وإبراهيم : «سَيُفْرَغُ » - بضم الياء - من تحت مبنيًّا للمفعول .
وعيسى - أيضاً - بفتح نون العظمة ، وكسر الراء .
والأعرج - أيضاً - بفتح الياء ، ويروى عن أبي عمرو .
قال القرطبي{[54461]} : «يقال : فرغتُ من الشغل أفرغُ فُرُوغاً وفَرَاغاً ، وتفرَّغْتُ لكذا ، واستفرغتُ مجهودي في كذا ، أي : بذلته ، وليس لله - تعالى - شغل يفرغ منه ، وإنما المعنى : سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم ، فهو وعيد لهم وتهديد قاله ابن عباس والضحاك{[54462]} ، كقول القائل لمن يريد تهديده : إذن أتفرغ لك ، أي : أقصد قصدك » .
وأنشد ابن الأنباري لجرير : [ الوافر ]
ألانَ وقَدْ فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ *** فَهَذَا حِينَ كُنْتُ لَهُمْ عَذَابَا{[54463]}
وأنشد الزجاج والنحاس : [ الطويل ]
فَرَغْتُ إلى العَبْدِ المُقَيَّدِ في الحِجْلِ{[54464]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويدل{[54465]} عليه قراءة أبيِّ رضي الله عنه : «سَنفْرُغُ إليْكُمْ » أي سنقصد إليكم .
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم «أنه لما بايع الأنصار ليلة «العقبةِ » ، صاح الشيطان : يا أهل الجباجب هذا مُذمَّمٌ يبايع بني «قيلة » على حربكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «هذا أزَبّ العقبة ، أما والله لأتفرَّغن لك »{[54466]} . أي : أقصد إلى إبطال أمرك .
وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما .
قال ابن الأثير : الأزَبُّ في اللغة : الكثير الشعر ، وهو هاهنا شيطان اسمه «أزب العقبة » وهو الحيّة .
وقيل : إن الله - تعالى - وعد على التقوى ، وأوعد على الفُجُور ، ثم قال : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } أي : مما وعدناكم ، ونوصل كلاًّ إلى ما وعدناه ، أقسم ذلك وأتفرغ منه . قاله الحسن ، ومقاتل ، وابن زيد .
قوله تعالى : { أَيُّهَ الثقلان } . تقدم الكلام في قراءة «أيُّهَا » في «النور » [ النور : 31 ] وهو منادى ، والحكمة في نداء المُبْهَم هي تنبيه كل سامع ، ثم يخصص المقصود بعد ذلك ، فيكون فيه اهتمام بالمنادى .
وأيضاً يجعل المبهم وصلة لنداء المعرف باللام ، وزيد معه هاء التي للتَّنبيه عوضاً عن الإضافة ؛ لأن المبهم يضاف .
و«الثَّقلان » الجنّ والإنس ، سُمِّيَا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف .
وقيل : سمّوا بذلك ؛ لأنهما ثقلا الأرض أحياء وأمواتاً .
قال تعالى : { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 2 ] .
ومنه قولهم : أعطهِ ثقله أي وزنه .
وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قَدْر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ، ومنه قيل لبيض النعام : ثقل ، لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به .
وقال جعفر الصادق : سميا ثقلين ؛ لأنهم مثقلان بالذنوب .
وقيل : الثَّقَل الإنس لشرفهم ، وسمّي الجن بذلك مجازاً للمجاورة والتغليب كالعَمريْن والقَمريْن والثَّقَل : العظيم الشريف .
قال عليه الصلاة والسلام : «إنِّي تاركٌ فيكم ثقلينِ : كتاب اللَّهِ وعترتِي »{[54467]} .
جمع في قوله تعالى : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } ثم قال : { أَيُّهَ الثقلان } ؛ لأنهما فريقان ، وكل فريق جمع ، وهذا كقوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس إِنِ استطعتم } ، ولم يقل «إن استطعتما » ؛ لأنهما فريقان في حال الجمع ، كقوله تعالى : { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } [ النمل : 45 ] .
وقوله تعالى : { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ } [ الحج : 19 ] ، ولو قال : سنفرغ لكما ، أو قال : استطعتما ، لجاز .
وقرأ{[54468]} أهل «الشَّام » : «أيُّهُ الثَّقلانِ » بضم الهاء ، والباقون : بفتحها .
هذه الآيات التي في «الأحقاف »{[54469]} ، و{ قُلْ أُوحِيَ } [ الجن : 1 ] دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيّون مثابون معاقبون كالإنس سواء ، مؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم .
قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا } [ الرحمان : 33 ] الآية . لما بين أن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن ، كأن قائلاً قال : فلم أخر عذابهم ؟ .
فأجيب{[54470]} : بأن الجميع في قبضته ، وأن الذي يستعجل إنما يخاف الفوت ، والجميع في قبضة الله - تعالى - فلا يفوتونه .
و«المعشر » : الجماعة العظيمة ؛ لأن المعشر هو العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلاَّ بابتداء فيه حيث يعيد الآحاد ، تقول : أحد عشر ، واثنا عشر وعشرون ، وثلاثون ، أي ثلاث عشرات ، فالمعشر كأنه في محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة .
فإن قيل : ما الحكمة في تقديم الجنّ على الإنس هاهنا ، وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن } [ الإسراء : 88 ] ؟ .
فالجواب{[54471]} : أن النفوذ من أقطار السماوات والأرض بالجن أليق إن أمكن ، والإتيان بمثل هذا القرآن بالإنس أليق إن أمكن الإتيان ، فقدم في كل موضع ما يليق به .
معنى الآية : إن استطعتم أن تنفذوا : تجوزوا وتخرجوا بسرعة .
والنفوذ : الخروج وقد تقدم في أول «البقرة » أن ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على الخروج كنفق ونفر ، قال تعالى : { يا معشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا } فاهربوا واخرجوا منها ، وهذا أمر تعجيز ، والمعنى : حيث ما كنتم أدرككم الموت ، كما قال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } [ النساء : 78 ] وهو قول الضحاك .
وروى جويبر عن الضحاك أيضاً قال : يقال لهم هذا يوم القيامة ، يعني : إن استطعتم أن تجوزوا أقطار السماوات والأرض ، فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم{[54472]} ، فجوزوا يعني لا مهرب لكم ولا خروج لكم عن ملك الله سبحانه وتعالى ، وأينما تولوا فثمَّ ملك الله .
وقال ابن عباس إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات وما في الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان أي يبينه من الله عز وجل{[54473]} وعنه أيضاً لا تنفذون إلا بسلطان لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم{[54474]} وقال قتادة : لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك{[54475]} وقيل : الباء بمعنى إلى أي إلا إلى سلطان كقوله تعالى وقد أحسن بي أي إليّ .
وقيل معناه : لا تنفذوا إلا ومعكم سلطان الله وقيل معناه : لا تتخلصون من عذاب الله إلا بسلطان يجيركم وإلا فلا مجير لكم .
قوله تعالى : { إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } . حال أو متعلق بالفعل قبله .
والسلطان : القوة التي يتسلّط بها على الأمر والملك والقدرة والحجة كلها سلطان ، يريد : حيث ما توجهتم كنتم في ملكي .