{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال بعضهم : يعني : وتجعلون رزقكم بمعنى شكركم أنكم تكذبون ، أي : تكذبون بدل الشكر .
وقد روي عن علي ، وابن عباس أنهما قرآها : " وتجعلون شكركم{[28160]} أنكم تكذبون " كما سيأتي .
وقال ابن جرير : وقد ذكر عن الهيثم بن عدي : أن من لغة أزد شَنوءةَ : ما رزق فلان بمعنى : ما شكر فلان .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } ، يقول : " شكركم { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } ، تقولون : مطرنا بِنَوء كذا وكذا ، بنجم كذا وكذا " {[28161]} .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن مُخَوَّل{[28162]} بن إبراهيم النهدي - وابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن عبيد الله بن موسى ، وعن يعقوب بن إبراهيم ، عن يحيى بن أبي بُكَيْر ، ثلاثتهم عن إسرائيل ، به مرفوعًا{[28163]} . وكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن مَنِيع ، عن حسين بن محمد - وهو المروزي - به . وقال : " حسن غريب " . وقد رواه سفيان ، عن عبد الأعلى ، ولم يرفعه {[28164]} .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : ما مُطِرَ قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرًا يقولون : مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا . وقرأ ابن عباس : " وتجعلون شكركم أنكم تكذبون " .
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس .
وقال مالك في الموطأ ، عن صالح بن كيْسَان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن زيد بن خالد الجُهَنِي أنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب . وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا . فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب " .
أخرجاه في الصحيحين ، وأبو داود ، والنسائي ، كلهم من حديث مالك ، به{[28165]} .
وقال مسلم : حدثنا محمد بن سلمة المرادي ، وعَمْرو بن سَوّاد ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ؛ أن أبا يونس حَدَّثه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ، ينزل الغيث ، فيقولون : بكوكب كذا وكذا " .
تَفَرَّد به مسلم من هذا الوجه{[28166]} .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لَيُصْبِحُ القومَ بالنعمة أو يُمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين يقولون : مُطِرنا بنوء كذا وكذا " .
قال محمد - هو ابن إبراهيم - : فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب ، فقال : ونحن قد سمعنا من أبي هُرَيرة ، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وهو يستسقي ، فلما استسقى التفت إلى العباس فقال : يا عباس ، يا عم رسول الله ، كم بقى من نوء الثريا ؟ فقال : العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعًا . قال : فما مضت سابعة حتى مُطِروا{[28167]} .
وهذا مَحمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر ، لا أن ذلك النوء يؤثر بنفسه في نزول المطر ؛ فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده . وقد تقدم شيء من هذه الأحاديث عند قوله : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا } [ فاطر : 2 ] .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية - أحسبه أو غيره - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا - ومطروا - يقول : مُطِرنا ببعض عَشَانين الأسد . فقال : " كذبت ! بل هو رزق الله " {[28168]} .
ثم قال ابن جرير : حدثني أبو صالح الصراري ، حدثنا أبو جابر محمد بن عبد الملك الأزدي{[28169]} ، حدثنا جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما مُطِر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين " {[28170]} . ثم قال : " { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } ، يقول قائل : مُطِرنا بنجم كذا وكذا " {[28171]} .
وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعًا : " لو قُحِطَ الناس سبع سنين ثم مطروا لقالوا : مطرنا بنوء المِجْدَح " {[28172]} .
وقال مجاهد : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال : قولهم في الأنواء : مُطِرنا بنوء كذا ، وبنوء كذا ، يقول : قولوا : هو من عند الله ، وهو رزقه . وهكذا قال الضحاك وغير واحد .
وقال قتادة : أما الحسن فكان يقول : بئس ما أخذ قوم لأنفسهم ، لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب . فمعنى قول الحسن هذا : وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به ؛ ولهذا قال قبله : { أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ . وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وَتَجْعَلُونَ رِزقَكمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ "يقول: وتجعلون شكر الله على رزقه إياكم التكذيب، وذلك كقول القائل لآخر: جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ، بمعنى: جعلت: شكر إحساني، أو ثواب إحساني إليك إساءة منك إليّ.
وقد ذُكر عن الهيثم بن عديّ: أن من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان: بمعنى ما شكر...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وتجعلون حظكم منه التكذيب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون} الله تعالى جعل هذا القرآن حياة للدين وقواما، والرزق حياة للأبدان وما به قوامها، فكذبوا الأمرين جميعا ما به حياة الدين وحياة الأبدان جميعا... {وتجعلون رزقكم} وهو هذا القرآن الذي خصكم به دون آبائكم، ورزقكم به ما لم يرزق آبائكم منه، ثم جعلتم تكذبون ذلك الرزق الذي خصصتم به ورزقتم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
... الرزق هاهنا بمعنى الهداية التي أعطاهم الله تعالى بالقرآن، فكأن الله تعالى لما أنزل القرآن، وبين لهم طريق الحق به فكذبوه وأنكروا، سمي بذلك البيان رزقا، وجعل تكذيبهم كفرانا لهذا الرزق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«تكذبون» وهو قولهم في القرآن: شعر وسحر وافتراء. وفي المطر: وهو من الأنواء، ولأنّ كل مكذب بالحق كاذب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وتجعلون رزقكم} أي حظكم ونصيبكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله {أنكم تكذبون} أي توجدون حقيقة التكذيب في الماضي والحال، وتجددون ذلك في كل وقت به وبما أرشد إليه من الأمور الجليلة وهي كل ما هو أهل للتصديق به وتصفونه بالأوصاف المتناقضة، ومن ذلك ما أرشد إليه من أنه لا فاعل إلا الله تعالى فتقولون أنتم إذا أمطركم ما يرزقكم به: هذا بنوء كذا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون).. فإذا التكذيب هو رزقكم الذي تحصلون عليه في حياتكم وتدخرونه لآخرتكم؟ وما أسوأه من رزق!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أفتجعلون رزقكم أنكم تكذبون، وهو تفريع على ما تضمنه الاستدلال بتكوين نسل الإنسان وخلق الحَب، والماء في المزن، والنار من أعواد الاقتداح، فإن في مجموع ذلك حصول مقومات الأقوات وهي رزق، والنسل رزق، يقال: رُزق فلان ولَداً، لأن الرزق يطلق على العطاء النافع...
وإذ كان التكذيب لا يصح أن يجعل رزقاً تعين بدلالة الاقتضاء تقدير محذوف يفيده الكلام فقدره المفسرون: شُكْر رزقكم، أو نحوه، أي تجعلون شكر الله على رزقه إياكم أن تكذبوا بقدرته على إعادة الحياة، لأنهم عدلوا عن شكر الله تعالى فيما أنعم به عليهم فاستنقصوا قدرته على إعادة الأجسام، ونسبوا الزرع لأنفسهم، وزعموا أن المطر تمطره النجوم المسماة بالأنواء...