المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

29- محمد رسول الله وأصحابه الذين معه أشداء أقوياء على الكفار ، متراحمون ، متعاطفون فيما بينهم ، تُبصرهم راكعين ساجدين كثيرا ، يرجون بذلك ثوابا عظيما من الله ورضوانا عميما ، علامتهم خشوع ظاهر في وجوههم من أثر الصلاة كثيرا ، ذلك هو وصفهم العظيم في التوراة ، وصفتهم في الإنجيل كصفة زرع أخرج أول ما ينشق عنه ، فآزره ، فتحول من الدقة إلى الغلظ ، فاستقام على أصوله ، يُعجب الزراع بقوته ، وكان المؤمنون كذلك ، ليغيظ الله بقوتهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة تمحو جميع ذنوبهم ، وثوابا بالغا غاية العظم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

والآن نجيء إلى ختام السورة . ختامها بتلك الصورة الوضيئة التي يرسمها القرآن لواقع صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبذلك الثناء الكريم على تلك الجماعة الفريدة السعيدة التي رضي الله عنها ، وبلغها رضاه فردا فردا :

( محمد رسول الله . والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ، فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ، ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . .

إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع . صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة ، حالاتها الظاهرة والمضمرة . فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم )ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم : ( تراهم ركعا سجدا ) . . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وهذه صفتهم فيها . . ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل . . ( كزرع أخرج شطأه )( فآزره ) . . ( فاستغلظ ) ( فاستوى على سوقه ) . ( يعجب الزراع ) . . : ( ليغيظ بهم الكفار ) . .

وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين : ( محمد رسول الله ) . . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .

والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم ، ونقط الإرتكاز الأصيلة في هذه الحياة . وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . . وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات ، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .

إرادة التكريم واضحة ، وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) . . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم ، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة ، والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء ، ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم ، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها ، ويلينون لإخوتهم فيها . وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى ، ومن الانفعال لغير الله ، والوشيجة التي تربطهم بالله .

وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم ، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة : ( تراهم ركعا سجدا ) . . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة ، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ؛ فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا .

واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم ، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم ، هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .

واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم ، ونضحها على سماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله : ( من أثر السجود ) . . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه ، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل ، والشفافية الصافية ، والوضاءة الهادئة ، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا .

وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ؛ ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة : ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى ، وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها .

( ومثلهم في الإنجيل ) . . وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه ، أنهم ( كزرع أخرج شطأه ) . . فهو زرع نام قوي ، يخرج فرخه من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده . ( فآزره ) . أو أن العود آزر فرخه فشده . ( فاستغلظ )الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . ( فاستوى على سوقه )لا معوجا ومنحنيا . ولكن مستقيما قويا سويا . .

هذه صورته في ذاته . فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع ، العارفين بالنامي منه والذابل . المثمر منه والبائر . فهو وقع البهجة والإعجاب : ( يعجب الزراع ) . وفي قراءة يعجب( الزارع ) . . وهو رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج . . وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس . فهو وقع الغيظ والكمد : ( ليغيظ بهم الكفار ) . . وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هي زرعة الله . أو زرعة رسوله ، وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله !

وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا ، فهو ثابت في صفحة القدر . ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض . ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون .

وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة . . صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . . فتثبت في صلب الوجود كله ، وتتجاوب بها أرجاؤه ، وهو يتسمع إليها من بارى ء الوجود . وتبقى نموذجا للأجيال ، تحاول أن تحققها ، لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات .

وفوق هذا التكريم كله ، وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . . وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعدما تقدم من صفتهم ، التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة .

مغفرة وأجر عظيم . . وذلك التكريم وحده حسبهم . وذلك الرضى وحده أجر عظيم . ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود ، والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ .

ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم . وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم . وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله ، وفي ميزان الله ، وفي كتاب الله . وأنظر إليهم وهم عائدون من الحديبية ، وقد نزلت هذه السورة ، وقد قرئت عليهم . وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم . وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها هو في كيانه .

وأحاول أن أعيش معهم لحظات في هذا المهرجان العلوي الذي عاشوا فيه . . ولكن أنى لبشر لم يحضر هذا المهرجان أن يتذوقه . إلا من بعيد ? !

اللهم إلا من يكرمه الله إكرامهم : فيقرب له البعيد ? !

فاللهم إنك تعلم أنني أتطلع لهذا الزاد الفريد ! ! !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

يخبر تعالى عن محمد صلوات الله عليه {[26994]} ، أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب ، فقال : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } ، وهذا مبتدأ وخبر ، وهو مشتمل على كل وصف جميل ، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال : { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } ، كما قال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفًا على الكفار ، رحيما برًا بالأخيار ، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر ، ضحوكا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر " {[26995]} ، وقال : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه{[26996]} كلا الحديثين في الصحيح .

وقوله : { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } : وصفهم بكثرة العمل وكثرة {[26997]} الصلاة ، وهي خير الأعمال ، ووصفهم بالإخلاص فيها لله ، عز وجل ، والاحتساب عند الله جزيل الثواب ، وهو الجنة{[26998]} المشتملة على فضل الله ، وهو سعة الرزق عليهم ، ورضاه ، تعالى ، عنهم وهو أكبر من الأول ، كما قال : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .

وقوله : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } يعني : السمت الحسن .

وقال مجاهد وغير واحد : يعني : الخشوع والتواضع .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطُّنَافسي ، حدثنا حسين الجَعْفي ، عن زائدة{[26999]} ، عن منصور عن مجاهد : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } قال : الخشوع قلت : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ، فقال : ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون .

وقال السدي : الصلاة تحسن وجوههم .

وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار .

وقد أسنده ابن ماجه في سننه ، عن إسماعيل بن محمد الطَّلْحي ، عن ثابت بن موسى ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله {[27000]} صلى الله عليه وسلم : " من كَثُرَتْ صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " والصحيح أنه موقوف{[27001]} .

وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس .

وقال أمير المؤمنين عثمان : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صَفَحَات وجهه ، وفَلتَات لسانه .

والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس ، كما روي عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه قال : من أصلح سريرته أصلح الله علانيته .

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمود بن محمد المروزي ، حدثنا حامد بن آدم المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن محمد بن عبيد الله العَرْزَمي ، عن سلمة بن كُهَيْل {[27002]} ، عن جُنْدَب بن سفيان البَجَلي قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر " ، العرزمي متروك {[27003]} .

وقال {[27004]} الإمام أحمد : حدثنا حسن بن {[27005]} موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائنا ما{[27006]} كان " {[27007]} .

وقال {[27008]} الإمام أحمد [ أيضا ] {[27009]} : حدثنا حسن ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا قابوس بن أبي ظَبْيَان : أن أباه حدثه عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الهدي الصالح ، والسمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة " ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي ، عن زهير ، به{[27010]} .

فالصحابة [ رضي الله عنهم ]{[27011]} خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم ، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم .

وقال مالك ، رحمه الله : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون : " والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا " . وصدقوا في ذلك ، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة {[27012]} ؛ ولهذا قال هاهنا : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } ، ثُمَّ قَالَ : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } : { أَخْرَجَ شَطْأَهُ ] } {[27013]} أي : فراخه ، { فَآزَرَهُ } أي : شده { فَاسْتَغْلَظَ } أي : شب وطال ، { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } أي : فكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع ، { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } .

ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك - رحمه الله ، في رواية عنه - بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة ، قال : لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية . ووافقه طائفة من العلماء على ذلك . والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة {[27014]} ، ويكفيهم ثناء الله عليهم ، ورضاه عنهم .

ثم قال : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ } من " هذه لبيان الجنس ، { مَغْفِرَةً } أي : لذنوبهم . { وَأَجْرًا عَظِيمًا } أي : ثوابا جزيلا ورزقا كريما ، ووعد الله حق وصدق ، لا يخلف ولا يبدل ، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم ، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم {[27015]} ، وقد فعل .

قال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " {[27016]} .

آخر تفسير سورة الفتح ، ولله الحمد والمنة .


[26994]:- (1) في ت: "صلى الله عليه وسلم" وفي م: "صلوات الله وسلامه عليه".
[26995]:- (1) رواه البخاري في صحيحه برقم (3011) ومسلم في صحيحه برقم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[26996]:- (2) رواه البخاري في صحيحه برقم (481) ومسلم في صحيحه برقم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[26997]:- (3) في ت، م: "وذكر".
[26998]:- (4) في م: "المحبة".
[26999]:- (5) في م: "المحبة".
[27000]:- (6) في ت: "عن النبي".
[27001]:- (7) سنن ابن ماجة برقم (1333).
[27002]:- (1) في ت: "وروى أبو القاسم الطبراني بإسناده".
[27003]:- (2) المعجم الكبير (2/171) وحامد بن آدم كذاب.
[27004]:- (3) في ت: "وروى".
[27005]:- (4) في أ: "عن".
[27006]:- (5) في ت: "من".
[27007]:- (6) المسند (3/28).
[27008]:- (7) في ت: "وروى".
[27009]:- (8) زيادة من ت.
[27010]:- (9) المسند (1/296) وسنن أبي داود برقم (4776).
[27011]:- (10) زيادة من ت، م، أ.
[27012]:- (11) في م: "المقدسة".
[27013]:- (12) زيادة من م.
[27014]:- (13) في م: "كبيرة".
[27015]:- (1) في ت، م، أ: "مثواهم".
[27016]:- (2) صحيح مسلم برقم (2540).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

{ محمد رسول الله } جملة مبينة للمشهود به ، ويجوز أن يكون { رسول الله } صفة و { محمد } خبر محذوف أو مبتدأ : { والذين معه } معطوف عليه وخبرهما { أشداء على الكفار رحماء بينهم } و{ أشداء } جمع شديد و { رحماء } جمع رحيم ، والمعنى أنهم يغلظون على من خالف دينهم ويتراحمون فيما بينهم كقوله : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } . { تراهم ركعا سجدا } لأنهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم . { يبتغون فضلا من الله ورضوانا } الثواب والرضا . { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } يريد السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود ، فعلى من سامه إذا أعلمه وقد قرئت ممدودة و{ من أثر السجود } بيانها أو حال من المستكن في الجار . { ذلك } إشارة إلى الوصف المذكور . أو إشارة مبهمة يفسرها { كزرع } . { مثلهم في التوراة } صفتهم العجيبة الشأن المذكور فيها . { ومثلهم في الإنجيل } عطف عليه أي ذلك مثلهم في الكتابين وقوله : { كزرع } تمثيل مستأنف أو تفسير أو مبتدأ و{ كزرع } خبره . { أخرج شطأه } فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ ، وقرأ ابن كثير وابن عامر برواية ابن ذكوان { شطأه } بفتحات وهو لغة فيه ، وقرئ " شطاه " بتخفيف الهمزة و " شطاءه " بالمد و " شطه " بنقل حركة الهمزة وحذفها و " شطوه " بقلبها واوا . { فآزره } فقواه من المؤازرة وهي المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان " فأزره " كأجره في آجره . { فاستغلظ } فصار من الدقة إلى الغلظ . { فاستوى على سوقه } فاستقام على قصبه جمع ساق ، وعن ابن كثير " سؤقه " بالهمزة . { يعجب الزراع } بكثافته وقوته وغلظه وحسن منظره ، وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة قلوا في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس . { ليغيظ بهم الكفار } علة لتشبيههم بالزرع في زكاته واستحكامه أو لقوله : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } فإن الكفار لما سمعوه غاظهم ذلك ومنهم للبيان .

ختام السورة:

عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد صلى الله عليه وسلم فتح مكة " .