كذلك يمن عليهم بكف أيدي المشركين عنهم ، وكف أيديهم عن المشركين من بعد ما أظفرهم على من هاجموهم . مشيرا إلى ذلك الحادث الذي أراد أربعون من المشركين أو أكثر أو أقل أن ينالوا من معسكر المسلمين . فأخذوا وعفا عنهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] :
( وهو الذي كف أيديهم عنكم ، وأيديكم عنهم ببطن مكة . من بعد أن أظفركم عليهم . وكان الله بما تعملون بصيرا ) . .
وهو حادث وقع ، يعرفه السامعون ؛ والله يذكره لهم في هذا الأسلوب ، ليرد كل حركة وكل حادث وقع لهم إلى تدبيره المباشر ؛ وليوقع في قلوبهم هذا الإحساس المعين بيد الله سبحانه وهي تدبر لهم كل شيء ، وتقود خطاهم ، كما تقود خواطرهم ، ليسلموا أنفسهم كلها لله ، بلا تردد ولا تلفت ، ويدخلوا بهذا في السلم كافة ، بكل مشاعرهم وخواطرهم ، واتجاههم ونشاطهم ؛ موقنين أن الأمر كله لله ، وأن الخيرة ما اختاره الله ، وأنهم مسيرون بقدره ومشيئته فيما يختارون وفيما يرفضون . وأنه يريد بهم الخير . فإذا استسلموا له تحقق لهم الخير كله من أيسر طريق . وهو بصير بهم ، ظاهرهم وخافيهم ، فهو يختار لهم عن علم وعن بصر . ولن يضيعهم ، ولن يضيع عليهم شيئا يستحقونه : ( وكان الله بما تعملون بصيرا ) . .
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } : هذا امتنان من الله على عباده المؤمنين حين كف أيدي المشركين عنهم ، فلم يصل {[26865]} إليهم منهم سوء ، وكفّ أيدي المؤمنين من المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام ، بل صان كلا من الفريقين ، وأوجد بينهم صلحا فيه خيَرَةٌ للمؤمنين ، وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة . وقد تقدم في حديث سلمة بن الأكوع حين جاءوا بأولئك السبعين الأسارى فأوثقوهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليهم وقال : " أرسلوهم يكن لهم بدء الفجور وثنَاه " . قال : وفي ذلك أنزل الله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الآية .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح ، من قبل جبل التنعيم ، يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليهم فأخذوا - قال عفان : فعفا عنهم - ونزلت هذه الآية : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ }
ورواه مسلم وأبو داود في سننه ، والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما ، من طرق ، عن حماد بن سلمة ، به{[26866]} .
وقال أحمد - أيضا - : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا الحسين بن واقد ، حدثنا ثابت البُنَاني ، عن{[26867]} عبد الله بن مُغَفَّل المُزَنِي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن ، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي بن أبي طالب . وسهلُ بن عمرو بين يديه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " ، فأخذ سهل بيده وقال : ما نعرف الرحمن الرحيم . اكتب في قضيتنا ما نعرف . قال : " اكتب باسمك اللهم " ، وكتب : " هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة " . فأمسك سهل بن عمرو بيده وقال : لقد ظلمناك إن كنت رسوله ، اكتب في قضيتنا ما نعرف . فقال : " اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله " . فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح ، فثاروا في{[26868]} وجوهنا ، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ الله بأسماعهم ، فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل جئتم في عهد أحد ؟ أو : هل{[26869]} جعل لكم أحد أمانا ؟ " فقالوا : لا . فخلى سبيلهم ، فأنزل الله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } . رواه النسائي من حديث حسين بن واقد ، به {[26870]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا يعقوب القُمّي ، حدثنا جعفر ، عن ابن أبْزَى قال : لما
خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة ، قال له عمر : يا نبي الله ، تدخل على قوم لك حَرْب بغير سلاح ولا كُرَاع ؟ قال : فبعث إلى المدينة ، فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله ، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل ، فسار حتى أتى منى ، فنزل بمنى ، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة ، فقال لخالد بن الوليد : " يا خالد ، هذا ابن عمك أتاك في الخيل{[26871]} ، فقال خالد : أنا سيف الله ، وسيف رسوله - فيومئذ سمي سيف الله - يا رسول الله ، ارم بي أين شئت . فبعثه على خيل ، فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، فأنزل الله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ] } {[26872]} إلى : { عَذَابًا أَلِيمًا } . قال : فكف الله النبي عنهم من بعد أن أظفره {[26873]} عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها كراهية أن تطأهم الخيل{[26874]} .
ورواه ابن أبي حاتم عن ابن أبزى بنحوه . وهذا السياق فيه نظر ؛ فإنه لا يجوز أن يكون عام الحديبية ؛ لأن خالدا لم يكن أسلم ؛ بل قد كان طليعة المشركين{[26875]} يومئذ ، كما ثبت في الصحيح . ولا يجوز أن يكون في عمرة القضاء ، لأنهم قاضوه على أن يأتي من العام المقبل{[26876]} فيعتمر ويقيم بمكة ثلاثة أيام ، فلما قدم لم يمانعوه ، ولا حاربوه ولا قاتلوه . فإن قيل : فيكون يوم الفتح ؟ فالجواب : ولا يجوز أن يكون يوم الفتح ؛ لأنه لم يسق عام الفتح هَديًا ، وإنما جاء محاربا مقاتلا في جيش عَرَمْرَم ، فهذا السياق فيه خلل ، قد وقع فيه شيء فليتأمل ، والله أعلم .
وقال ابن إسحاق : حدثني من لا أتهم ، عن عكرمة مولى ابن عباس : أن قريشا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أحدًا ، فأُخذُوا أخذًا ، فأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا إلى {[26877]} عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم {[26878]} بالحجارة والنبل . قال ابن إسحاق : وفي ذلك أنزل الله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الآية {[26879]} .
وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلا يقال له : " ابن زُنَيْم " اطلع على الثنية من الحديبية ، فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا فأتوه باثني عشر فارسًا من الكفار ، فقال لهم : " هل لكم علي عهد ؟ هل لكم علي ذمة ؟ " . قالوا : لا . فأرسلهم ، وأنزل الله في ذلك : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الآية .
{ وهو الذي كف أيديهم عنكم } أي أيدي كفار مكة . { وأيديكم عنهم ببطن مكة } في داخل مكة . { من بعد أن أظفركم عليهم } أظهركم عليهم ، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد . وقيل كان ذلك يوم الفتح واستشهد به على أن مكة فتحت عنوة وهو ضعيف إذ السورة نزلت قبله . { وكان الله بما تعملون } من مقاتلتهم أولا طاعة لرسوله وكفهم ثانيا لتعظيم بيته ، وقرأ أبو عمرو بالياء { بصيرا } فيجازيهم عليه .