ويعقب السياق على تلك الآيات وما فيها من صيانة لدعوة الله من كيد الشيطان بأن الذين يكفرون بها مدحورون ينتظرهم العذاب المهين :
( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم . الملك يومئذ لله يحكم بينهم . فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم ، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين ) .
ذلك شأن الذين كفروا مع القرآن كله ، يذكره السياق بعد بيان موقفهم مما يلقي الشيطان في أمنيات الأنبياء والرسل ، لما بين الشأنين من تشابه واتصال . فهم لا يزالون في ريبة من القرآن وشك . منشأ هذه الريبة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشته فتدرك ما فيه من حقيقة وصدق . ويظل هذا حالهم ( حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم )بعد قيام الساعة . ووصف هذا اليوم بالعقيم وصف يلقي ظلا خاصا . فهو يوم لا يعقب . . إنه اليوم الأخير . .
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار : أنهم لا يزالون في مرية ، أي : في شك وريب من هذا القرآن ، قاله ابن جريج ، واختاره ابن جرير .
وقال سعيد بن جبير ، وابن زيد : { مِنْهُ } أي : مما ألقى الشيطان .
{ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } : قال مجاهد : فجأة . وقال قتادة : { بَغْتَةً } ، بغت [ القوم ]{[20378]} أمر الله ، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم ، فلا تغتروا بالله ، إنه لا يغتر بالله{[20379]} إلا القوم الفاسقون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : ولا يزال الذين كفرا بالله في شكّ .
ثم اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله : «منه » من ذكر ما هي ؟ فقال بعضهم : هي من ذكر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «تلك الغرانيق العُلَى ، وإن شفاعتهن لترتجى » . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير : وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ من قوله : «تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن ترتجى » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ قال : مما جاء به إبليس لا يخرج من قلوبهم زادهم ضلالة .
وقال آخرون : بل هي من ذكر سجود النبيّ صلى الله عليه وسلم في النجم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جُبير : وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ قال : في مِرْية من سجودك .
وقال آخرون : بل هي من ذكر القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ قال : من القرآن .
وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : هي كناية من ذكر القرآن الذي أحكم الله آياته وذلك أن ذلك من ذكر قوله : وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أنّهُ الْحَقّ مِنْ رَبّكَ أقرب منه من ذكر قوله : فَيَنُسَخُ اللّهُ ما يُلْقي الشّيْطانُ والهاء من قوله «أنه » من ذكر القرآن ، فإلحاق الهاء في قوله : فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ بالهاء من قوله : أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّكَ أولى من إلحاقها ب «ما » التي في قوله : ما يُلْقِي الشّيْطانُ مع بُعد ما بينهما .
وقوله : حتى تَأْتيَهُمُ السّاعَةُ يقول : لا يزال هؤلاء الكفار في شك من أمر هذا القرآن إلى أن تأتيهم الساعة بَغْتَةً وهي ساعة حشر الناس لموقف الحساب بغتة ، يقول : فجأة . أوْ يَأْتيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ .
واختلف أهل التأويد في هذا اليوم أيّ يوم هو ؟ فقال بعضهم : هو يوم القيامة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا شيخ من أهل خراسان من الأزد يكني أبا ساسان ، قال : سألت الضحاك ، عن قوله : عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قال : عذاب يوم لا ليلة بعده .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبوُ تمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرِمة . أن يوم القيامة لا ليلة له .
وقال آخرون : بل عني به يوم بدر . وقالوا : إنما قيل له يوم عقيم ، أنهم لم ينظروا إلى الليل ، فكان لهم عقيما . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ يوم بدر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : أوْ يَأْتيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قال ابن جُرَيج : يوم ليس فيه ليلة ، لم يناظروا إلى الليل . قال مجاهد : عذاب يوم عظيم .
قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، قال : قال مجاهد : يوم بدر .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو إدريس ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن رجل ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قال : يوم بدر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله : عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قال : هو يوم بدر . ذكره عن أبيّ بن كعب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قال : هو يوم بدر . عن أبيّ بن كعب .
وهذا القول الثاني أولى بتأويل الاَية لأنه لا وجه لأن يقال : لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة ، أو تأتيهم الساعة وذلك أن الساعة هي يوم القيامة ، فإن كان اليوم العقيم أيضا هو يوم القيامة فإنما معناه ما قلنا من تكرير ذكر الساعة مرّتين باختلاف الألفاظ ، وذلك ما لا معنى له . فإذ كان ذلك كذلك ، فأولى التأويلين به أصحهما معنى وأشبههما بالمعروف في الخطاب ، وهو ما ذكرناه في معناه .
فتأويل الكلام إذن : ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ، حتى تأتيهم الساعة بغتة فيصيروا إلى العذاب الدائم ، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم له فلا ينظروا فيه إلى الليل ولا يؤخروا فيه إلى المساء ، لكنهم يقتلون قبل المساء .
{ ولا يزال الذين كفروا في مرية } في شك . { منه } من القرآن أو الرسول ، أو مما ألقى الشيطان في أمنيته يقولن ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها . { حتى تأتيهم الساعة } القيامة أو أشراطها أو الموت . { بغتة } فجأة . { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر ، سمي به لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم ، أو لأن المقاتلين أبناء الحرب فإذا قتلوا صارت عقيما ، فوصف اليوم بوصفها اتساعا أو لأنه لا خير لهم فيه ، ومنه الريح العقيم لما لم تنشئ مطرا ولم لقح شجرا ، أو لأنه لا مثل له لقتال الملائكة فيه ، أو يوم القيامة على أن المراد بن { الساعة } غيره أو على وضعه ، موضع ضميرها للتهويل .
«المرية » الشك ، والضمير في قوله { منه } قالت فرقة هو عائد على القرآن ، وقالت فرقة : على محمد عليه السلام ، وقالت فرقة : على ما { ألقى الشيطان } [ الحج : 52 ] ، وقال سعيد بن جبير أيضاً على سجود النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم ، و { الساعة } ، قالت فرقة : أراد يوم القيامة ، «واليوم العقيم » ، يوم بدر ، وقالت فرقة : { الساعة } ، موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر ونحوه ، و «اليوم العقيم » ، يوم القيامة ،
قال أبو محمد رحمه الله :وهذان القولان جيدان لأنهما أحرزا التقسيم ب { أو } ومن جعل { الساعة } و «اليوم العقيم » ، يوم القيامة ، فقد أفسد رتبة { أو } ، وسمي يوم القيامة أو يوم الاستئصال عقيماً لأنه لا ليلة بعده ولا يوم ، والأيام كأنها نتائج لمجيء وأحد إثر واحد ، فكأن أخر يوم قد عقم وهذه استعارة ، وجملة هذه الآية توعد .