وبتوجيه الرسول [ ص ] إلى تلاوة ما أوحاه ربه إليه ، وفيه فصل الخطاب - وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل - والاتجاه إلى الله وحده ، فليس من حمى إلا حماه . وقد فر إليه أصحاب الكهف فشملهم برحمته وهداه :
( واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ، ولن تجد من دونه ملتحدا ) . .
وهكذا تنتهي القصة ، تسبقها وتتخللها وتعقبها تلك التوجيهات التي من أجلها يساق القصص في القرآن . مع التناسق المطلق بين التوجيه الديني والعرض الفني في السياق .
يقول تعالى آمرًا رسوله [ عليه الصلاة والسلام ]{[18109]} بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه{[18110]} إلى الناس : { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي : لا مغير{[18111]} لها ولا محرف ولا مؤوّل .
وقوله : { وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } [ عن مجاهد : { مُلْتَحَدًا } قال : ملجأ . وعن قتادة : وليًا ولا مولى ]{[18112]} قال ابن جرير : يقول{[18113]} إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك ، فإنه لا ملجأ لك من الله " . كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] ، وقال تعالى { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [ القصص : 85 ] أي : سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واتبع يا محمد ما أنزل إليك من كتاب ربك هذا ، ولا تتركنّ تلاوته ، واتباع ما فيه من أمر الله ونهيه ، والعمل بحلاله وحرامه ، فتكون من الهالكين وذلك أن مصير من خالفه ، وترك اتباعه يوم القيامة إلى جهنم لا مُبَدّلَ لكَلماتِهِ يقول : لا مغير لما أوعد بكلماته التي أنزلها عليك أهل معاصيه ، والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك .
وقوله : وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا يقول : وإن أنت يا محمد لم تتل ما أوحى إليك من كتاب ربك فتتبعه وتأتمّ به ، فنالك وعيد الله الذي أوعد فيه المخالفين حدوده ، لن تجد من دون الله موئلاً تئل إليه ومعدلاً تعدل عنه إليه ، لأن قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه ، لا يقدر أحد منهم على الهرب من أمر أراد به .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : مُلْتَحَدا قال أهل التأويل ، وإن اختلفت ألفاظهم في البيان عنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : مُلْتَحَدا قال : مَلْجَأ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مُلْتَحَدا قال : ملجأ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا قال : موئلاً .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : مُلْتَحَدا قال : ملجأ ولا موئلاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا قال : لا يجدون ملتحدا يلتحدونه ، ولا يجدون من دونه ملجأ ولا أحدا يمنعهم . والملتحد : إنما هو المفتعل من اللحد ، يقال منه : لحدت إلى كذا : إذا ملت إليه ومنه قيل للحد : لحد ، لأنه في ناحية من القبر ، وليس بالشقّ الذي في وسطه ، ومنه الإلحاد في الدين ، وهو المعاندة بالعدول عنه ، والترك له .
ثم لما دل اشتمال القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث إنها من المغيبات بالإضافة إلى رسول الله على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه ويلازم أصحابه فقال : { واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك } من القرآن ، ولا تسمع لقولهم { ائت بقرآن غير هذا أو بدله } . { لا مبدّل لكلماته } لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره . { ولن تجد من دونه ملتحدا } ملتجأ عليه إن هممت به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك}، يقول: أخبر كفار مكة الذين سألوا عن أصحاب الكهف بما أوحينا إليك من أمرهم، لا تنقص ولا تزد، {لا مبدل لكلماته}، يقول: لا تحويل لقوله؛ لأن قوله تعالى ذكره حق، ثم حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم إن زاد أو نقص،
ثم قال سبحانه: {ولن تجد من دونه ملتحدا}، يعني: مدخلا، يقول: لا تقل في أصحاب الكهف إلا ما قد قيل لك، فإن فعلت فإنك لن تجد من دون الله عز وجل ملجأ تلجأ إليه ليمنعك منا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتبع يا محمد ما أنزل إليك من كتاب ربك هذا، ولا تتركنّ تلاوته، واتباع ما فيه من أمر الله ونهيه، والعمل بحلاله وحرامه، فتكون من الهالكين وذلك أن مصير من خالفه، وترك اتباعه يوم القيامة إلى جهنم "لا مُبَدّلَ لكَلماتِهِ "يقول: لا مغير لما أوعد بكلماته التي أنزلها عليك أهل معاصيه، والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك.
وقوله: "وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا" يقول: وإن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فتتبعه وتأتمّ به، فنالك وعيد الله الذي أوعد فيه المخالفين حدوده، لن تجد من دون الله موئلاً تئل إليه، ومعدلاً تعدل عنه إليه، لأن قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه، لا يقدر أحد منهم على الهرب من أمر أراد به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... ثم في قوله: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} (المائدة: 67) وقوله: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك} فريضة ضَيَّعْنَاهَا؛ وذلك أنه أمر رسوله بتبليغ رسالته وما أنزل إليه. ثم معلوم أن من كان في أقصى الدنيا وأَبْعَدِ أطرافها لم يَقْدِرْ رسوله أن يتولى التبليغ بنفسه، وكذلك بعد وفاته، لا يجوز أنه يَتَوَلَّى تبليغه. فكان القيام بتبليغ ذلك يُلْزِمُ المسلمين وأئمتهم، فضيعوا ذلك. ولهذا ما رخص، والله أعلم، بدخول المسلمين دار الحرب للتجارة ودخول أولئك دار الإسلام للتجارة أيضا لينتهي إليهم خبر هذا الدين حيث عُلِمَ أنه يكون أئمة في آخر الزمان لا يهتمون لدينه، ولا يتولون تبليغ ما أمروا به بتبليغه، ويضيعون أمره، فتلزمهم حجة الله. وإلا ما الحاجة في تلك التجارة والأموال التي يتجرون فيها؟ ولكن ما ذكرنا، والله أعلم...
{لا مبدل لكلمته} قال بعضهم: لا مبدل لسنته؛ إذ سنته في المكذبين الإهلاك، وفي المصدقين النجاة. وهذه سنته... وقال الحسن في قوله: {لا مبدل لكلماته} ما وعد، وأوعد لهم في الدنيا، فذلك في الآخرة لا يُبَدِّلُ ولا يُحَوِّلُ؛ إذ وعد للمؤمنين الجنة وللكافرين العذاب. فذلك لا يُبَدِّلُ. وقال بعضهم: {لا مبدل لكلماته} و هي القرآن، لا يتبدل، ولا يتغير، ولا يُزاد، ولا ينقص، كقوله: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصلت: 42). وقال بعضهم: {لا مبدل لكلماته} لحججه وبراهينه التي جعل لدينه، وأقام له...
{ولن تجد من دونه ملتحدا} هذا الخطاب، وإن كان في الظاهر لرسول الله، فهو يخرج مخرج التنبيه على ما ذكرنا في غير آية من القرآن.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كانوا يقولون له: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، فقيل له {واتل مَا أُوْحِي إِلَيْكَ} من القرآن ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل، فلا مبدل لكمات ربك، أي: لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها، وإنما يقدر على ذلك هو وحده...
{وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وكأن هذه الآية، في معنى الإعتاب للنبي عليه السلام، عقب العتاب الذي كان تركه الاستثناء، كأنه يقول هذه أجوبة الأسئلة فاتل وحي الله إليك، أي اتبع في أعمالك، وقيل اسرد بتلاوتك ما أوحي إليك من كتاب ربك، لا نقض في قوله... ولا يفسر قوله {لا مبدل لكلماته} أمر النسخ لأن المعنى: إما أن يكون لا مبدل سواه فتبقى الكلمات على الإطلاق، وإما أن يكون أراد من «الكلمات» الخبر ونحوه، مما لا يدخله نسخ، والإجماع أن الذي لا يتبدل هو الكلام القائم بالذات الذي بحسبه يجري القدر. فأما الكتب المنزلة فمذهب ابن عباس أنها لا تبدل إلا بالتأويل...
اعلم أن من هذه الآية إلى قصة موسى والخضر كلام واحد في قصة واحدة، وذلك أن أكابر كفار قريش احتجوا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نؤمن بك فاطرد من عندك هؤلاء الفقراء الذين آمنوا بك والله تعالى نهاه عن ذلك ومنعه عنه وأطنب في جملة هذه الآيات في بيان أن الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد واقتراح باطل، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئا واحدا وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه وعلى العمل به وأن لا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنت المتعنتين فقال: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك}... {لا مبدل لكلماته} أي يمتنع تطرق التغيير والتبديل إليه وهذه الآية يمكن التمسك بها في إثبات أن تخصيص النص بالقياس غير جائز لأن قوله: {اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك} معناه الزم العملَ بمقتضى هذا الكتاب وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره... {ولن تجد من دونه ملتحدا}... المعنى: ولن تجد من دونه ملجأ في البيان والرشاد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{واتل} أي اقرأ على وجه الملازمة {ما أوحي إليك} وبنى الفعل للمجهول لأن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو على القطع بأن الموحى إليه هو الله سبحانه وتعالى {من كتاب ربك} الذي أحسن تربيتك في قصة أهل الكهف وغيرها، على من رغب فيه غير ملتفت إلى غيره واتبعوا ما فيه واثقين بوعده ووعيده وإثباته ونفيه وعلى غيرهم. ولما كان الحامل على الكف عن إبلاغ رسالة المرسل وجدان من ينقضها أو عمي على المرسل، قال تعالى: {لا مبدل لكلماته} فلا شك في وقوعها فلا عذر في التقصير في إبلاغها، والنسخ ليس بتبديل بهذا المعنى بل هو غاية لما كان... {ملتحداً} أي... متحيزاً...
تميل إليه فيمنعك منه إن قصرت في ذلك.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لا مبدل لكلماته، أي: لا تغير ولا تبدل لصدقها وعدلها، وبلوغها من الحسن فوق كل غاية {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} فلتمامها، استحال عليها التغيير والتبديل، فلو كانت ناقصة، لعرض لها ذلك أو شيء منه، وفي هذا تعظيم للقرآن، في ضمنه الترغيب على الإقبال عليه...
{وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} أي: لن تجد من دون ربك... معاذا تعوذ به، فإذا تعين أنه وحده الملجأ في كل الأمور، تعين أن يكون هو المألوه المرغوب إليه، في السراء والضراء، المفتقر إليه في جميع الأحوال، المسئول في جميع المطالب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأصل النفي بـ (لا) النافية للجنس أنه نفي وجود اسمه. والمراد هنا نفي الإذن في أن يبدل أحد كلمات الله. والتبديل: التغيير بالزيادة والنقص، أي بإخفاء بعضه بترك تلاوة ما لا يرضون بسماعه من إبطال شركهم وضلالهم. وهذا يؤذن بأنهم طعنوا في بعض ما اشتملت عليهم القصة في القرآن كما أشار إليه قوله: {سيقولون ثلاثة} [الكهف: 22]... فالأمر في قوله: {واتل} كناية عن الاستمرار. و {ما أوحي} مفيد للعموم، أي كل ما أوحي إليك. ومفهوم الموصول أن ما لم يوح إليه لا يتلوه، وهو ما اقترحوا أن يقوله في الثناء عليهم وإعطائهم شطراً من التصويب...
والملتحد: مكان الالتحاد، والالتحاد: الميل إلى جانب. وجاء بصيغة الافتعال لأن أصله تَكلُّف الميل. ويفهم من صيغة التكلف أنه مَفَّرٌ من مكروهٍ يَتكلَّف الخائفُ أن يأوي إليه، فلذلك كان الملتَحد بمعنى الملجأ...
والمقصود من هذا تأييسهم مما طمعوا فيه...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
... من تحمل مسؤولية الدعوة إلى الله يجب عليه أن لا يتخلى عنها، وأن يواصلها دون انقطاع، وأن يؤثر بها من عندهم حرص كبير على تلقينها، واستعداد خاص لقبولها، وأن يسقط من حسابه في هذا المجال الاعتبارات الجانبية والمظاهر المادية، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته، ولن تجد من دونه ملتحدا} أي ملجأ آخر تلجأ إليه...
أي بعد هذه الأسئلة التي سألك كفار مكة إياها، وأخبرك الله بها فأجبتهم، اعلم أن لك رباً رفيقاً بك، لا يتخلى عنك ولا يتركك لكيدهم، فإن أرادوا أن يصنعوا لك مأزقاً أخرجك الله منه، وإياك أن تظن أن العقبات التي يقيمها خصومك ستؤثر في أمر دعوتك. وإن أبطأت نصرة الله لك فاعلم أن الله يريد أن يمحص جنود الحق الذين يحملون الرسالة إلى أن تقوم الساعة، فلا يبقى في ساحة الإيمان إلا الأقوياء الناضجون، فالأحداث والشدائد التي تمر بطريق الدعوة إنما لتغربل أهل الإيمان حتى لا يصمد فيها إلا من هو مأمون على حمل هذه العقيدة. وقوله: {لا مبدل لكلماته}: لأن كلمات الله لا يستطيع أحد أن يبدلها إلا أن يكون معه سبحانه إله آخر، فمادام هو سبحانه إلهاً واحداً لا شريك له، فاعلم أن قوله الحق الذي لا يبدل ولا يغير: {ولن تجد من دون ملتحداً}: أي: ملجأ تذهب إليه؛ لأن حسبك الله وهو نعم الوكيل، كما قال تعالى: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون "51 "} (سورة العنكبوت).