ثم يكشف للمسلمين عما تكنه لهم صدور اليهود حولهم من الشر والعداء ، وعما تنغل به قلوبهم من الحقد والحسد ، بسبب ما اختصهم به الله من الفضل . ليحذروا أعداءهم ، ويستمسكوا بما يحسدهم هؤلاء الأعداء عليه من الإيمان ، ويشكروا فضل الله عليهم ويحفظوه :
( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم . والله يختص برحمته من يشاء . والله ذو الفضل العظيم ) . .
ويجمع القرآن بين أهل الكتاب والمشركين في الكفر . . وكلاهما كافر بالرسالة الأخيرة فهما على قدم سواء من هذه الناحية ؛ وكلاهما يضمر للمؤمنين الحقد والضغن ، ولا يود لهم الخير . وأعظم ما يكرهونه للمؤمنين هو هذا الدين . هو أن يختارهم الله لهذا الخير وينزل عليهم هذا القرآن ، ويحبوهم بهذه النعمة ، ويعهد إليهم بأمانة العقيدة في الأرض ، وهي الأمانة الكبرى في الوجود .
ولقد سبق الحديث عن حقدهم وغيظهم من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، حتى لقد بلغ بهم الغيظ أن يعلنوا عداءهم لجبريل - عليه السلام - إذ كان ينزل بالوحي على الرسول [ ص ] :
( والله يختص برحمته من يشاء ) . .
فالله أعلم حيث يجعل رسالته ؛ فإذا اختص بها محمدا [ ص ] والمؤمنين به ، فقد علم - سبحانه - أنه وأنهم أهل لهذا الاختصاص .
وقوله تعالى : { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ } يبين بذلك تعالى شدة عداوة{[2483]} الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ، الذين حذر تعالى من مشابهتهم للمؤمنين ؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم . وينبِّه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل ، الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث يقول تعالى : { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
{ مّا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْكُمْ مّنْ خَيْرٍ مّن رّبّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
يعني بقوله : { ما يَوَدّ } ما يحبّ ، أي ليس يحبّ كثير من أهل الكتاب ، يقال منه : ودّ فلان كذا يَوَدّ وُدّا ووَدّا ومودّةً . وأما «المشركين » فإنهم في موضع خفض بالعطف على أهل الكتاب .
ومعنى الكلام : ما يحبّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم . وأما أنْ في قوله : { أنْ يُنَزّلَ } فنصب بقوله : يَودّ . وقد دللنا على وجه دخول «مِن » في قوله : مِنْ خَيْرٍ وما أشبه ذلك من الكلام الذي يكون في أوله جحد فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
فتأويل الكلام : ما يحبّ الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله ينزلهم عليكم . فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته ، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك حسدا وبغيا منهم على المؤمنين .
وفي هذه الآية دلالة بيّنة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين ، والاستماع من قولهم وقبول شيء مما يأتونهم به ، على وجه النصيحة لهم منهم بإطلاعه جلّ ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } والله يختصّ من يشاء بنبوّته ورسالته فيرسله إلى من يشاء من خلقه ، فيتفضل بالإيمان على من أحبّ فيهديه له . واختصاصه إياهم بها إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه . وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه وهدايته من هدى من عباده رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته ، وفوزه بها بالجنة واستحقاقه بها ثناءه وكل ذلك رحمة من الله له .
وأما قوله : { وَاللّهُ ذو الفَضْلِ العَظِيمِ } فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم فإنه من عنده ابتداءً وتفضلاً منه عليهم من غير استحقاق منهم ذلك عليه .
وفي قوله : { وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ } تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب أن الذي آتى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية تفضلاً منه ، وأن نعمه لا تدرك بالأماني ولكنها مواهب منه يختصّ بها من يشاء من خلقه .
{ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ، ويزعمون أنهم يودون لهم الخير . والود : محبة الشيء مع تمنيه ، ولذلك يستعمل في كل منهما ، ومن للتبيين كما في قوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } { أن ينزل عليكم من خير من ربكم } مفعول يود ، ومن الأولى مزيدة للاستغراق ، والثانية للابتداء ، وفسر الخير بالوحي . والمعنى أنهم يحسدونكم به وما يحبون أن ينزل عليكم شيء منه وبالعلم وبالنصرة ، ولعل المراد به ما يعم ذلك والله يختص برحمته من يشاء يستنبئه ويعلمه الحكمة وينصره لا يجب عليه شيء ، وليس لأحد عليه حق { والله ذو الفضل العظيم } إشعار بأن النبوة من الفضل ، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله ، بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.