( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ، فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ، لا تخاف دركا ولا تخشى . فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ، وأضل فرعون قومه وما هدى ) . .
ولا يذكر السياق هنا ما الذي كان بعد مواجهة الإيمان للطغيان في موقف السحرة مع فرعون . ولا كيف تصرف معهم بعدما اعتصموا بإيمانهم مستقبلين التهديد والوعيد بقلب المؤمن المتعلق بربه ، المستهين بحياة الأرض وما فيها ومن فيها . إنما يعقب بهذا المشهد . مشهد الانتصار الكامل ليتصل النصر القلبي بالنصر الواقعي . وتتجلى رعاية الله لعباده المؤمنين كاملة حاسمة . . ولنفس الغرض لا يطيل هنا في مشهد الخروج والوقوف أمام البحر - كما يطيل في سور أخرى - بل يبادر بعرض مشهد النصر بلا مقدمات كثيرة . لأن مقدماته كانت في الضمائر والقلوب .
وإن هو إلا الإيحاء لموسى أن يخرج بعباد الله - بني إسرائيل - ليلا . فيضرب لهم طريقا في البحر يبسا بدون تفصيل ولا تطويل - فنعرضه نحن كذلك كما جاء - مطمئنا إلى أن عناية الله ترعاهم فلا يخاف أن يدركه فرعون وجنوده ، ولا يخشى من البحر الذي اتخذ له طريقا يابسا فيه ! ويد القدرة التي أجرت الماء وفق الناموس الذي أرادته قادرة على أن تكشفه بعض الوقت عن طريق يابس فيه !
يقول تعالى مخبرًا أنه أمر موسى ، عليه السلام ، حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل ، أن يسري بهم في الليل ، ويذهب بهم من قبضة فرعون . وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة الكريمة . وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب ، فغضب فرعون غضبًا شديدًا وأرسل في المدائن حاشرين ، أي من يجمعون له الجند من بلدانه ورَسَاتيقه ، يقول : { إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } [ الشعراء : 54 ، 55 ] ثم لما جمع جنده واستوثق له جيشه ، ساق في طلبهم { فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ } [ الشعراء : 60 ] أي : عند طلوع الشمس { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ } أي : نظر كل من الفريقين إلى الآخر { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 61 ، 62 ] ، ووقف موسى ببني إسرائيل ، البحر أمامهم ، وفرعون وراءهم ، فعند ذلك أوحى الله إليه أن { اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا } فضرب البحر بعصاه ، وقال : " انفلق{[19447]} بإذن الله " { فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] أي : الجبل العظيم . فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار يابسا كوجه الأرض ؛ فلهذا قال : { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا } أي : من فرعون ، { وَلا تَخْشَى } يعني : من البحر أن يغرق قومك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىَ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَقَدْ أوْحَيْنا إلى نبينا مُوسَى إذ تابعنا له الحجج على فرعون ، فأبى أن يستجيب لأمر ربه ، وطغى وتمادى في طغيانه أنْ أسْرِ ليلاً بِعبادِي يعني بعبادي من بني إسرائيل فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا فِي البَحْرِ يَبَسا يقول : فاتخذ لهم في البحر طريقا يابسا . واليَبَس واليَبْس : يجمع أيباس ، تقول : وقفوا في أيباس من الأرض . واليَبْس المخفف : يجمع يبوس . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله يَبَسا قال : يابسا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن مجاهد ، مثله .
وأما قوله : " لا تَخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى " فإنه يعني : لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك ، ولا تخشى غرقا من بين يديك ووَحَلاً . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : " لا تخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى " يقول : لا تخافُ من آل فرعون دَرَكا وَلا تَخْشى مِنَ البَحْرِ غرقا .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " لا تَخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى " يقول : لا تخاف أن يدركك فرعون من بعدك ولا تخشى الغرق أمامك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيْج : قال أصحاب موسى : هذا فرعون قد أدركنا ، وهذا البحر قد غشينا ، فأنزل الله : لا تَخافُ دَرَكا أصحاب فرعون وَلا تَخْشَى من البحر وحلاً .
حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن بعض أصحابه ، في قوله : " لا تَخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى " قال : الوَحَل .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله لا تَخافُ دَرَكا فقرأته عامّة قرّاء الأمصار غير الأعمش وحمزة : لا تَخافُ دَرَكا على الاستئناف بلا ، كما قال : " وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسألُكَ رِزْقا " فرفع ، وأكثر ما جاء في هذا الأمر الجواب مع «لا » . وقرأ ذلك الأعمش وحمزة «لا تَخَفْ دَرَكا » فجزما لا تخاف على الجزاء ، ورفعا وَلا تَخْشَى على الاستئناف ، كما قال جلّ ثناؤه : " يُوَلّوكُمُ الأدْبارَ ثُمّ لا يُنْصَرُونَ " فاستأنف بثم ، ولو نوى بقوله : ولاَ تَخْشَى الجزم ، وفيه الياء ، كان جائزا ، كما قال الراجز :
*** هُزّي إلَيْكِ الجِذْعَ يَجْنِيكِ الجَنى ***
وأعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها : لا تخافُ على وجه الرفع ، لأن ذلك أفصح اللغتين ، وإن كانت الأخرى جائزة . وكان بعض نحويي البصرة يقول : معنى قوله : لا تَخافُ دَرَكا اضرب لهم طريقا لا تخاف فيه دركا ، قال : وحذف فيه ، كما تقول : زيد أكرمت ، وأنت تريد : أكرمته ، وكما تقول : وَاتّقُوا يَوْما لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا أي لا تجزى فيه . وأما نحويو الكوفة فإنهم ينكرون حذف فيه إلا في المواقيت ، لأنه يصلح فيها أن يقال : قمت اليوم وفي اليوم ، ولا يجيزون ذلك في الأسماء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.