الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَقَدۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ} (77)

قوله : { طَرِيقاً } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ به ؛ وذلك على سبيلِ المجاز : وهو أنَّ الطريقَ مُتَسَبِّبٌ عن ضَرْب البحرِ ، إذ المعنى : اضربْ البحرَ لينغلقَ لهم فيصيرَ طريقاً ، فبهذا صَحَّ نسبةُ الضربِ إلى الطريق . وقيل : " ضرب " هنا بمعنى جَعَلَ أي : اجعل لهم طريقاً وأَشْرِعْه فيه . والثاني : أنه منصوبٌ على الظرفِ . قال أبو البقاء : " التقدير : موضعَ طريقٍ ، فهو مفعولٌ به على الظاهر . ونظيرُه قولُه { أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ } [ الشعراء : 63 ] وهو مثلُ " ضربْتُ زيداً " . وقيل : " ضرب " هنا بمعنى " جعل " و " شرع " مثلَ قولهم : ضربْتُ له بسَهْم " انتهى . فقولُه على الظاهر يعني أنه لولا التأويلُ لكان ظرفاً .

قوله : { يَبَساً } صفةٌ ل " طريقاً " وصَفَه به لِما يَؤُول إليه ؛ لأنه لم يكنْ يَبَساً بعدُ ، إنما مرَّت عليه الصَّبا فجفَّفَتْه ، كما يُرْوى في التفسيرِ . وهل في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به مبالغةً ، أو على حذفِ مضافٍ أو جمع يابس كخادم وخَدَم ، وُصِف به الواحدُ مبالغةً كقولِه :

3307 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . ومِعَىً جِياعاً

أي : كجماعةٍ جِياع ، وَصَفَ به لفَرْط جوعه ؟

وقرأ الحسنُ " يَبْساً " بالسكونِ . وهو مصدرٌ أيضاً . وقيل : المفتوحُ اسمٌ ، والساكنُ مصدرٌ . وقرأ أبو حيوة " يابساً " اسمُ فاعل .

قوله : { لاَّ تَخَافُ } العامَّةُ على " لا تَخاف " مرفوعاً ، وفيه أوجهٌ ، أحدها : أنه مستأنفٌ فلا محلَّ له من الإِعراب . الثاني : أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل " اضرِبْ " أي : اضرب غيرَ خائفٍ . والثالث : أنه صفةٌ ل " طريقاً " ، والعائدُ محذوفٌ أي لا تخافُ فيه .

[ وقرأ ] حمزةُ وحدَه من السبعة " لا تَخَفْ " بالجزم على النهي . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ نَهْياً مستأنِفاً . الثاني : أنه نهيٌ أيضاً في محلِّ نصب على الحال من فاعل " اضرِبْ " أو صفةٌ لطريقاً ، كما تقدَّم في قراءةِ العامَّةِ ، إلاَّ أن ذلك يحتاج إلى إضمار قول أي : مقولاً لك ، أو طريقاً مقولاً فيها : لا تخف . كقوله :

جاؤوا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطّ ***

الثالث : مجزومٌ على جوابِ الأمر أي : إن تضربْ طريقاً يَبَساً لا تَخَفْ .

قوله : { وَلاَ تَخْشَى } لم يُقْرأ إلاَّ ثابتَ الألفِ . وكان مِنْ حَقِّ مَنْ قرأ " لا تَخَفْ " جزماً أن يَقْرأ " لا تَخْشَ " بحذفِها ، كذا قال بعضُهم . وليس بشيءٍ لأنَّ القراءةَ سُنَّةٌ . وفيها أوجه أحدها : أن تكونَ حالاً . وفيه إشكالٌ : وهو أنَّ المضارعَ المنفيَّ ب " لا " كالمُثْبَتِ في عدمِ مباشرةِ الواو له . وتأويلُه على حذف مبتدأ أي : وأنت لا تَخْشَى كقولِه :

3309 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** نَجَوْتُ وأَرْهَنُهم مالِكا

والثاني : أنه مستأنفٌ . أخبره تعالى أنه لا يَحْصُل له خوفٌ .

والثالث : أنه مجزومٌ بحذفِ الحركةِ تقديراً كقولِه :

إذا العَجوْزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ *** ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ

وقولِ الآخر :

3311 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَأَنْ لم تَرَى قبلي أسيراً يمانيا

ومنه { فَلاَ تَنسَى } [ الأعلى : 6 ] في أحد القولين ، إجراءً لحرفِ العلة مُجْرى الحرفِ الصحيح . وقد تقدَّم لك من هذا جملةٌ صالحة في سورةِ يوسف عند { مَن يَتَّقِ } [ الآية : 90 ] . والرابع : أنه مجزومٌ أيضاً بحذفِ حرفِ العلةِ . وهذه الألفُ ليسَتْ تلك ، أعني لامَ الكلمة ، إنما هي ألفُ إشباع أُتِيَ بها موافقةً للفواصلِ ورؤوسِ الآي ، فهي كالألفِ في قولِه :

{ الرَّسُولاَ } [ الأحزاب : 66 ] و { السَّبِيلاْ } [ الأحزاب : 67 ] و { الظُّنُونَاْ }

[ الأحزاب : 10 ] وهذه الأوجهُ إنما يحتاجُ إليها في قراءةِ جزمِ " لا تَخَفْ " . وأمَّا من قرأه مرفوعاً فهذا معطوفٌ عليه .

وقرأ أبو حيوة " دَرْكاً " بسكون الراء . والدَّرَك والدَّرْك [ اسمان ] من الإِدراك أي : لا يُدركك فرعونُ وجنوده . وقد تقدَّم الكلامُ عليهما في سورة النساء ، وإنَّ الكوفيين قرؤوه بالسكونِ كأبي حيوةَ هنا .