وعند هذا الحد من العرض والتعقيب ، يلتفت السياق إلى صفحة أخرى غير صفحة المكذبين . ويعرض صورة أخرى في ظل وادع أمين . صورة المتقين :
( إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . .
ذلك بينما المجرمون في ضلال وسعر . يسحبون في النار على وجوههم في مهانة . ويلذعون بالتأنيب كما يلذعون بالسعير : ( ذوقوا مس سقر ) . .
وهي صورة للنعيم بطرفيه : ( في جنات ونهر ) . ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) .
نعيم الحس والجوارح في تعبير جامع شامل : ( في جنات ونهر )يلقي ظلال النعماء واليسر حتى في لفظه الناعم المنساب . . وليس لمجرد إيقاع القافية تجيء كلمة( نهر )بفتح الهاء . بل كذلك لإلقاء ظل اليسر والنعومة في جرس اللفظ وإيقاع التعبير !
ونَهَر : وأنهار ، والمراد به الجنس ، وقرئ بضم النون وسكون الهاء ، مثل : أُسْد وأَسَد .
مقعد صدق : مكان مرضيّ ، أو في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم ، والمراد به أيضا الجنس ، وقرئ : مقاعد : أي : مجالس من الجنات سالمة من اللغو والتأثيم ، بخلاف مجالس الدنيا فإنها قلّ أن تسلم من ذلك .
مليك : صيغة مبالغة ، أي : عزيز الملك واسع السلطان .
مقتدر : قادر لا يعجزه شيء وهو الله تعالى ، والعندية ليست عندية مكان ، وإنما إشارة إلى الرتبة والقرب من فضل الله تعالى .
54-55- { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } .
في ختام سورة ( القمر ) التي حفلت بحديث متواصل عن هلاك المكذبين ، يأتي في نهايته حديث هادئ ، فيه تكريم المتقين تكريما حسيا ومعنويا ، أما التكريم الحسّي فهو التمتع بالجنات وما فيها من أشجار وثمار ، وحور عين ، وأنهار واسعة متعددة الأشكال والألوان .
قال تعالى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ . . . } ( محمد : 15 ) .
أما التكريم المعنوي : فهم في مقعد كريم ، ومجلس فاضل رائق ، لا يتكلم فيه إلا بالصدق والفضل والخير ، مع البعد عن الإثم والكذب ، والزور والخطيئة ، وهذا المقعد الذي يحظى به الصادقون ، عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ . عند رب عظيم ، واسع القدرة ، يكرم عباده المتقين الذين جاهدوا في الدنيا ، وحرصوا على مرضاة الله في دنياهم ، فالله تعالى يقربهم منه ، ويكرمهم عنده ، وهي عندية منزلة وقربى وزلفى ، ومكانة رفيعة .
أخرج أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المقسطون عند الله على منابر من نور ، عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا " xv
{ إن المتقين في جنات ونهر } : إن الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يفسقوا عن أمره في جنات يشربون من أنهار الماء واللبن والخمر والعسل المصفى .
وقوله تعالى { إن المتقين في جنات ونهر } هذا الإِخبار يقابل الإِخبار الأول أن المجرمين في ضلال وسعر فالأول إعلام وتحذير وترهيب وهذا إخبار وبشرى وترغيب حيث أخبر أن المتقين الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يفسقوا عن أمره إنهم في جنات بساتين ذات قصور وحور ، وأنهار وأشجار .
- بيان مصير المتقين مع التغريب في التقوى إذ هي ملاك الأمر وجماع الخير .
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ } لله ، بفعل أوامره وترك نواهيه ، الذين اتقوا الشرك والكبائر والصغائر .
{ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } أي : في جنات النعيم ، التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، من الأشجار اليانعة ، والأنهار الجارية ، والقصور الرفيعة ، والمنازل الأنيقة ، والمآكل والمشارب اللذيذة ، والحور الحسان ، والروضات البهية في الجنان ، ورضوان الملك الديان ، والفوز بقربه ، ولهذا قال :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن المتقين في جنات} يعني البساتين {ونهر} يعني الأنهار الجارية، ويقال: السعة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"إنّ المُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ ونَهَرٍ "يقول تعالى ذكره: إن الذين اتقوا عقاب الله بطاعته وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه في بساتين يوم القيامة، وأنهار، ووحد النهر في اللفظ، ومعناه الجمع... وقد قيل: إن معنى ذلك: إن المتقين في سعة يوم القيامة وضياء، فوجّهوا معنى قوله: "ونَهَر" إلى معنى النهار.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختُلف في تأويل قوله تعالى: {ونَهَرٍ}. قيل: {ونَهَرٍ} من النهار، أي هم في ضياء ونور وسرور، وهو قول الأصمّ. وقال الفرّاء: النهر السَّعة؛ يقال: أنهرت الطعنة، أي وسّعتها. وقال أهل التأويل: أي الأنهار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن المتقين} أي العريقين في وصف الخوف من الله تعالى الذي أداهم إلى أن لا يفعلوا شيئاً إلا بدليل. {ونهر} وأفرده لأن التعبير ب "في " مفهم لعمومهم به عموم ما كأنه ظرف وهم مظروفون له، ولكثرة الأنهار وعظمها حتى أنها لقرب بعضها من بعض واتصال منابعها وتهيئ جميع الأرض لجري الأنهار منها كأنها شيء واحد، وما وعد به المتقون من النعيم في تلك الدار فرقائقه معجلة لهم في هذه الدار، فلهم اليوم جنات العلوم وأنهار المعارف، وفي الآخرة الأنهار الجارية والرياض والأشجار والقصور والزخارف، وهو يصلح مع ذلك لأن يكون مما منه النهار فيكون المعنى: أنهم في ضياء وسعة لا يزايلونه أصلاً بضد ما عليه المجرم من العمى الناشئ عن الظلام، ولمثل هذه الأغراض أفرد مع إرادة الجنس لا للفاصلة فقط.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بياني لأنه لما ذكر أن كل صغير وكبير مستطرِ على إرادة أنه معلوم ومجازىً عليه وقد علم جزاء المجرمين من قوله: {إن المجرمين في ضلال وسعر} [القمر: 47] كانت نفس السامع بحيث تتشوف إلى مقابل ذلك من جزاء المتقين وجريا على عادة القرآن من تعقيب النذارة بالبشارة والعكس. وافتتاح هذا الخبر بحرف {إن} للاهتمام به.