اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّـٰتٖ وَنَهَرٖ} (54)

قوله تعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } العامة بالإفراد ، وهو اسم جنس بدليل مقارنته للجمع والهاء مفتوحة كما هو الفصيح .

وسكّنها مجاهدٌ والأعرج وأبو السَّمَّال «والفَيَّاض »{[54223]} . وهي لغة تقدم الكلام عليها أول البقرة .

قال ابن جُرَيْجٍ : معنى ( نهر ) أنهار الماء والخَمْر والعَسَل . ووُحِّدَ ؛ لأنه رأس آية . ثم الواحد قد ينبىء عن الجمع{[54224]} . وقال الضحاك ليس المراد هنا نهر الماء ، وإنما المراد سَعَةُ الأرزاق{[54225]} ؛ لأن المادة تدل على ذلك كقول قَيْس بن الخَطِيمِ :

مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا *** يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونها مَا وَرَاءَهَا{[54226]}

أي وسعته . ومنه : أَنْهَرْتُ الجُرْحَ . ومنه : النَّهَار ، لضيائه .

وقرأ أبو نهيك وأبو مجْلَز والأعمش وزهير الفُرْقُبيّ - ونقله القرطبي أيضاً عن طَلْحَة بن مُصَرِّف والأعرج وقتادة - : «ونُهُر » بضم النون والهاء{[54227]} وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون نهر بالتحريك وهو الأولى نحو : أُسُد في أَسَدٍ .

والثاني : أن يكون جمع الساكن نحو : سُقُف في سَقْفٍ ، ورُهُن في رَهْن . والجمع مناسب للجمع قبله في جَنَّات{[54228]} . وقراءة العامة بإفراده أبلغ ، وقد تقدم كلام ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة { وَمَلائكته وكتابه } [ البقرة : 285 ] بالإِفراد أنه أكثر من الكُتُب ، وتقدم أيضاً تقرير الزمخشري لذلك{[54229]} . قال القرطبي ( رحمةُ الله عليه ) {[54230]} كأَنه جمع نهار لا ليل لهم كسَحَاب وسُحُب{[54231]} . قال الفراء : أنشدني بعض العرب :

إِنْ تَك لَيْلِيًّا فَإِنِّي نَهِرُ *** مَتَى أَرَى الصُّبْحَ فَلاَ أَنْتَظِرُ{[54232]}

أي صاحب النهار . وقال آخر :

لَوْلاَ الثَّرِيدُ إِنْ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ *** ثَرِيدُ لَيْلٍ وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ{[54233]}

فصل

لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضاً ، فقال : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ } الجنات : اسم للأشجار أي هم خلالها وكذلك الأنهر ، والمعنى : جنات وعند عيون كقوله :

عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[54234]}

وجمعت الجنات إشارة إلى سَعَتِها وتنوعها ، وأفرد النَّهَر ؛ لأن المعنى في خلاله ، فاستغني عن جمعه ، وجمع في قوله : { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } لئلا يتوهم أنه ليس في الجنة إلاّ نهر فيه . والتنكير فيه للتعظيم .


[54223]:هو الفيّاضُ بن غزوان كما ذكره صاحب البحر. وهذه قراءة شاذة. انظر البحر المحيط 8/184 وابن خالويه في المختصر 148. وفياض بن غزوان الضّبي الكوفي مقرئ موثق، أخذ القراءة عرضا عن طلحة بن مصرف. وسمع من زبيد اليمامي، روى الحروف عنه طلحة بن سليمان، وانظر الغاية 2/13.
[54224]:القرطبي 17/149.
[54225]:نقله صاحب البحر المرجع السابق.
[54226]:من الطويل له وهو في الديوان ص 3 بلفظ: ترى قائما من خلفها. ونسبه صاحب الدر المنثور للبيد. والشاهد في: انهرت أي وسّعت. ومعنى: ملكت: شددت وقويت. وهو يصف طعنة. وانظر البحر 8/184. والقرطبي 17/149 وروح المعاني 27/95 والدر المنثور 7/687، وتأويل المشكل 174 واللسان "نهر" 4556.
[54227]:الجامع لأحكام القرآن له 17/149 و150. وهي شاذة وانظر المختصر 148.
[54228]:نقله أبو حيان في البحر 8/184.
[54229]:قال الزمخشري في الكشاف 1/407: "وقرأ ابن عباس وكتابه يريد القرآن أو الجنس وعنه الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت: كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء فأما الجمع فلا الجمع يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع".
[54230]:زيادة من أ.
[54231]:الجامع 17/150.
[54232]:من الرجز وفي الطبري: "متى أتى" بدل "متى أرى". والبيت مجهول قائله. والشاهد في: نهر أي صاحب النهار فهو في مقالة "ليليًّا". وانظر البيت في القرطبي 17/150 واللسان "نهر" 4557 والطبري 27/68 دار المعرفة ومعاني الفراء 3/111.
[54233]:كسابقه في البحر والجهل بقائله. وشاهده في كلمة: بالمهر فإنه بمعنى النهار، أو جمع نهار كسحاب وسُحب، وانظر اللسان "نهر" 4557 والقرطبي 17/150. وروى البيت صاحي التهذيب والصحاح كما يلي: لولا الثريد إن لُمتنا بالضُّمُر *** ...................... انظر التهذيب والصحاح "نهر".
[54234]:صدر بيت من الرجز عجزه: حتى شتت همّالة عيناها *** .................. والشاهد: إضمار الفعل للتناسب أي علفتُها تِبناً وسقيتها ماءاً. وقد تقدم.