فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّـٰتٖ وَنَهَرٖ} (54)

{ إن المتقين في جنات ونهر( 54 )في مقعد صدق عند مليك مقتدر( 55 ) } .

إن الذين يتقون ما يُسْخِطُ الله ويُحِلُّ عقوبته ، ويؤدون الطاعات ويجتنبون المحظورات ، يسكنهم المولى البر الرحيم في مساكن طيبة ، في حدائق وبساتين كثر شجرها وعظم خَضِرها حتى لا يبدو أديمها ؛ وحولهم ومن تحت أفنيتهم تجري أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى- فنهر جمع أنهار[ جمع الجمع ]- وقيل نهر : أي نهار لا ظلمة معه فهم في نور وضياء ، ومستقرهم في مقاعد ومواطن حق ، لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ، ولهم منازل وأقدار كريمة فهم مقربون من ربهم المالك لكل شيء القدير على كل ما يريد ؛ [ ويحتمل أن يكون الظرف{ عند }- صفة { مقعد صدق } ، كما يقال : قليل عند أمين خير من كثير عند خائن ؛ قال أهل اللغة : القعود يدل على المكث . . ومنه : قواعد البيت . . ويجوز أن يكون سبب الإضافة أن الصادق قد أخبر عنه وهو الله ورسوله ؛ أو الصادق اعتقد فيه وهو المكلف ، أو يراد : مقعد لا يوجد فيه كذب ؛ فإن من وصل إلى الله استحال عليه إلا الصدق ، وهو-تبارك وتعالى- أعلم ، وأجل وأكرم . ]{[5959]} .

[ وقال نور بن يزيد عن خالد بن معدان : بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون : يا أولياء الله انطلقوا ؛ فيقولون : إلى أين ؟ فيقولون : إلى الجنة ، فيقول المؤمنون : إنكم تذهبون بنا إلى غير بغيتنا ، فيقولون : فما بغيتكم ؟ فيقولون : مقعد صدق عند مليك مقتدر . . ]{[5960]} .

وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق ، وهو المقعد الذي يصدق الله تعالى فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح عز وجل لهم النظر إلى وجهه الكريم ، وإفراد المقعد على إرادة الجنس { عند مليك } أي ملك عظيم الملك ، وهو صيغة مبالغة وليست الياء من الإشباع . . ولهذين الاسمين الجليلين شأن في استجابة الدعاء على ما في بعض الآثار .

أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال : دخلت المسجد وأنا أرى أني أصبحت ، فإذا عليّ ليل طويل ، وليس فيه أحد غيري ، فنمت فسمعت حركة خلفي ففزعت ، فقال : أيها الممتلئ قلبه فرقا لا تفرق-أو لا تفزع- وقل : اللهم إنك مليك مقتدر ، ما تشاء من أمر يكون ، ثم سل ما بدا لك . قال : فما سألت الله تعالى شيئا إلا استجاب لي ، وأنا أقول : اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون ، فأَسْعِدني في الدارين ، وكن لي ولا تكن عليّ ، وانصرني على من بغى عليّ ؛ وأعذني من همّ الدين وقهر الرجال وشماتة الأعداء ؛ وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين{[5961]} .


[5959]:مما أورد صاحب غرائب القرآن ورغائب الفرقان.
[5960]:مما نقل صاحب [الجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان].
[5961]:مما أورد صاحب روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني.