( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) . . وذلك في موقف من مواقف ذلك اليوم المشهود . الذي ستكون فيه مواقف شتى . منها ما يسأل فيه العباد ، ومنها ما لا يسألون فيه عن شيء . ومنها ما تجادل كل نفس عن نفسها ، وما تلقي به التبعة على شركائها ، ومنها ما لا يسمح فيه بكلمة ولا جدال ولا خصام ! فهو يوم طويل مديد . وكل موقف من مواقفه هائل مشهود .
تصدع السماء وأحوال المجرمين يوم القيامة
{ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ( 37 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 38 ) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ ( 39 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 40 ) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ( 41 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 42 ) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ( 43 ) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ ( 44 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 45 ) }
كالدّهان : مذابة كالدّهن أو كالأديم ( الجلد ) الأحمر ، على خلاف ما هي عليه الآن . وجواب ( فإذا ) محذوف تقديره : فما أعظم الهول .
النواصي : واحدها ناصية ، وهي مقدم الرأس .
والأقدام : واحدها قدم ، وهي قدم الرجل المعروفة .
37 ، 38 ، 39 ، 40 ، 41 ، 42- { فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلاَ جَانٌّ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
يعرض القرآن مشاهد القيامة ماثلة أمام العين كأنك تشاهدها ، وترى السماء العالية المتماسكة ، وقد انشقت على غلظها ، وتعلقت الملائكة بأرجائها ، وتغيَّر لون السماء ، فصار أحمر قانيا بلون الورد ، كما أن جرمها قد انماع ، فصار دهنا متلونا بين الأصفر والأحمر والأخضر ، بلون الأصباغ التي يدهن بها ، أو درديّ الزيت .
{ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
بأي هذه النعم تكذبان ؟ حيث يكافأ المتقون ، ويعاقب المجرمون ، وحيث يخبرنا الله بذلك لنحذر عقاب هذا اليوم .
فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلاَ جَانٌّ .
يوم القيامة يوم طويل ، وفيه مواقف متعددة ، في بعضها يُسأل الإنسان .
قال تعالى : { وقفوهم إنهم مسئولون } . ( الصافات : 24 ) .
وفي بعض المواقف ينتهي الأمر كما ينتهي التحقيق في بعض القضايا ، وتحجز للنطق بالحكم .
وفي مواقف الآخرة هناك وثائق تغني عن السؤال ، منها شهادة الجوارح ، وما سُجِّل في الكتب ، وشهادة الملائكة ، واطّلاع الجبار سبحانه وتعالى .
وفي هذا المعنى يقول القرآن الكريم : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } . ( النور : 24 ) .
ويقول سبحانه وتعالى : { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . ( الجاثية : 29 ) .
وقال تعالى : { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . ( فصلت : 21 ) .
وقد أخبرنا القرآن الكريم أن المؤمنين تبيض وجوههم ، وتكون عليها نضرة النعيم ، ويسعى النور بين أيديهم وبأيمانهم ، وأن الكفار تسودُّ وجوههم ، وتعلوها الغبرة والقترة ، والقتام والخوف والذل .
{ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
أي : من نعمه أن أحقّ الحق ، وأبطل الباطل ، وكرَّم المؤمنين ، وعذَّب الكافرين ، فبأي نعمه تكذبان ؟
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ .
يُعرف المجرمون بعلامات ، منها سواد وجوههم ، وزرقة عيونهم ، وظهور القتام والذلّ والمهانة عليهم ، فتمسك الملائكة بشعر رؤوسهم ، وتجمعه مع أقدامهم ، ويرمى بهم إلى جهنم ، فما أشق ذلك وما أصعبه .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ .
ومن نعم الله تحذير الناس من ذلك المصير ، نعوذ بالله من حال أهل النار ، ونقول :
{ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ } أي : سؤال استعلام بما وقع ، لأنه تعالى عالم الغيب والشهادة والماضي والمستقبل ، ويريد أن يجازي العباد بما علمه من أحوالهم ، وقد جعل لأهل الخير والشر يوم القيامة علامات يعرفون بها ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ
قوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان* فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } قال الحسن وقتادة : لا يسألون عن ذنوبهم لتعلم من جهتهم ، لأن الله عز وجل اعلم بها منهم ، وكتبت الملائكة عليهم ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس . وعنه أيضاً لا تسأل الملائكة المجرمين لأنهم يعرفونهم بسيماهم . دليله ما بعده ، وهذا قول مجاهد . وعن ابن عباس في الجمع بين هذه الآية وبين قوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين }( الحجر-92 ) ، قال : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا ؟ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا ؟ وعن عكرمة أنه قال : إنها مواطن ، يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها . وعن ابن عباس أيضاً : لا يسألون سؤال شفقة ورحمة وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ . وقال أبو العالية : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم .
قوله تعالى : " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان " هذا مثل قوله تعالى : " ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون{[14565]} " [ القصص : 78 ] وأن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم ، فيسأل في بعض ولا يسأل في بعض ، وهذا قول عكرمة . وقيل : المعنى لا يسألون إذا استقروا في النار . وقال الحسن وقتادة : لا يسألون عن ذنوبهم ؛ لأن الله حفظها عليهم ، وكتبتها عليهم الملائكة . رواه العوفي عن ابن عباس . وعن الحسن ومجاهد أيضا : المعنى لا تسأل الملائكة عنهم ، لأنهم يعرفونهم بسيماهم ، دليله ما بعده . وقال مجاهد عن ابن عباس . وعنه أيضا في قوله تعالى : " فوربك لنسألنهم أجمعين{[14566]} " [ الحجر : 92 ] وقوله : " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان " وقال : لا يسألهم ليعرف ذلك منهم ؛ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكنه يسألهم لِمَ عملتموها سؤال توبيخ . وقال أبو العالية : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم . وقال قتادة : كانت المسألة قبل ، ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت الجوارح شاهدة عليهم . وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال : " فيلقى العبد فيقول : أي فُل{[14567]} ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك تَرْأَسُ وتَرْبَعُ ؟ فيقول : بلى ، فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا ، فيقول : إني أنساك كما نسيتني ، ثم يلقى الثاني فيقول له مثل ذلك بعينه ، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول : يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع ، فيقول : ها هنا إذا ، ثم يقال له : الآن نبعث شاهدنا عليك فيفتكر في نفسه من هذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه " وقد مضى هذا الحديث في " حم السجدة " وغيرها{[14568]} .
{ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } السؤال المنفي هنا هو على وجه الاستخبار وطلب المغفرة إذ لا يحتاج إلى ذلك لأن المجرمين يعرفون بسيماهم ولأن أعمالهم معلومة عند الله مكتوبة في صحائفهم ، وأما السؤال الثابت في قوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين } [ الحجر : 92 ] وغيره ، فهو سؤال على وجه الحساب والتوبيخ فلا تعارض بين المنفي والمثبت وقيل : إن ذلك باختلاف المواطن والأول أحسن .
قوله : { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } أي يوم تنشق السماء وتتلون كالأصباغ من هول الأحداث لا يسأل أحد من الإنس أو الجن عن ذنبه ، بل سائر الخلق من الثقلين صامتون لا يتكلمون . والتوفيق بين هذه الآية وغيرها من الآيات الدالة على سؤال العباد عن أعمالهم كقوله سبحانه : { فوربك لنسألنّهم أجمعين } أن يوم القيامة يوم طويل وفيه مواطن كثيرة ، فيسأل الناس في مواطن ولا يسألون في موطن آخر .