مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُسۡـَٔلُ عَن ذَنۢبِهِۦٓ إِنسٞ وَلَا جَآنّٞ} (39)

قوله تعالى : { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ، فبأي آلاء ربكما تكذبان } وفيه وجهان ( أحدهما ) لا يسأله أحد عن ذنبه ، فلا يقال : له أنت المذنب أو غيرك ، ولا يقال : من المذنب منكم بل يعرفونه بسواد وجوههم وغيره ، وعلى هذا فالضمير في ذنبه عائد إلى مضمر مفسر بما يعده ، وتقديره لا يسأل إنس عن ذنبه ولا جان يسأل ، أي عن ذنبه ( وثانيهما ) معناه قريب من المعنى قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } كأنه يقول : لا يسأل عن ذنبه مذنب إنس ولا جان وفيه إشكال لفظي ، لأن الضمير في ذنبه إن عاد إلى أمر قبله يلزم استحالة ما ذكرت من المعنى بل يلزم فساد المعنى رأسا لأنك إذا قلت : لا يسأل مسئول واحد أو إنسي مثلا عن ذنبه فقولك بعد إنس ولا جان ، يقتضي تعلق فعل بفاعلين وأنه محال ، والجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) أن لا يفرض عائدا وإنما يجعل بمعنى المظهر لا غير ويجعل عن ذنبه كأنه قال : عن ذنب مذنب ( ثانيهما ) وهو أدق وبالقبول أحق أن يجعل ما يعود إليه الضمير قبل الفعل فيقال : تقديره فالمذنب يومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ، وفيه مسائل لفظية ومعنوية :

المسألة الأولى : اللفظية الفاء للتعذيب وأنه يحتمل أن يكون زمانيا كأنه يقول : فإذا انشقت السماء يقع العذاب ، فيوم وقوعه لا يسأل ، وبين الأحوال فاصل زماني غير متراخ ، ويحتمل أن يكون عقليا كأنه يقول : يقع العذاب فلا يتأخر تعلقه بهم مقدار ما يسألون عن ذنبهم ، ويحتمل أن يكون أراد الترتيب الكلامي كأنه يقول : تهربون بالخروج من أقطار السماوات ، وأقول لا تمتنعون عند انشقاق السماء ، فأقول : لا تمهلون مقدار ما تسألون .

المسألة الثانية : ما المراد من السؤال ؟ نقول : المشهور ما ذكرنا أنهم لا يقال لهم : من المذنب منكم ، وهو على هذا سؤال استعلام ، وعلى الوجه الثاني سؤال توبيخ أي لا يقال له : لم أذنب المذنب ، ويحتمل أن يكون سؤال موهبة وشفاعة كما يقول القائل : أسألك ذنب فلان ، أي أطلب منك عفوه ، فإن قيل : هذا فاسد من وجوه ( أحدها ) أن السؤال إذا عدى بعن لا يكون إلا بمعنى الاستعلام أو التوبيخ وإذا كان بمعنى لاستعطاء يعدى بنفسه إلى مفعولين فيقال : نسألك العفو والعافية ( ثانيها ) الكلام لا يحتمل تقديرا ولا يمكن تقديره بحيث يطابق الكلام ، لأن المعنى يصير كأنه يقول : لا يسأل واحد ذنب أحد بل أحد لا يسأل ذنب نفسه ( ثالثها ) قوله : { يعرف المجرمون بسيماهم } لا يناسب ذلك نقول : ( أما الجواب عن الأول ) فهو أن السؤال ربما يتعدى إلى مفعولين غير أنه عند الاستعلام يحذف الثاني ويؤتى بما يتعلق به يقال : سألته عن كذا أي سألته الإخبار عن كذا فيحذف الإخبار ويكتفي بما يدل عليه ، وهو الجار والمجرور فيكون المعنى طلبت منه أن يخبرني عن كذا ( وعن الثاني ) أن التقدير لا يسأل إنس ذنبه ولا جان ، والضمير يكون عائدا إلى المضمر لفظا لا معنى ، كما نقول : قتلوا أنفسهم ، فالضمير في أنفسهم عائد إلى ما في قولك : قتلوا لفظا لا معنى لأن ما في قتلوا ضمير الفاعل ، وفي أنفسهم ضمير المفعول ، إذ الواحد لا يقتل نفسه وإنما المراد كل واحد قتل واحدا غيره ، فكذلك [ كل ] إنس لا يسأل [ عن ] ذنبه أي ذنب إنس غيره ، ومعنى الكلام لا يقال : لأحد اعف عن فلان ، لبيان أن لا مسئول في ذلك الوقت من الإنس والجن ، وإنما كلهم سائلون الله والله تعالى حينئذ هو المسئول .

وأما المعنوية فالأولى : كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين } وبينه وبين قوله تعالى : { وقفوهم إنهم مسئولون } ؟ نقول : على الوجه المشهور جوابان ( أحدهما ) أن للآخرة مواطن . فلا يسأل في موطن ، ويسأل في موطن ( وثانيهما ) وهو أحسن لا يسأل عن فعله أحد منكم ، ولكن يسأل بقوله : لم فعل الفاعل فلا يسأل سؤال استعلام ، بل يسأل سؤال توبيخ ، وأما على الوجه الثاني فلا يرد السؤال ، فلا حاجة إلى بيان الجمع .

والثانية : ما الفائدة في بيان عدم السؤال ؟ نقول : على الوجه المشهور فائدته التوبيخ لهم كقوله تعالى : { وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة } وقوله تعالى : { وأما الذين اسودت وجوههم } وعلى الثاني بيان أن لا يؤخذ منهم فدية ، فيكون ترتيب الآيات أحسن ، لأن فيها حينئذ بيان أن لا مفر لهم بقوله : { إن استطعتم أن تنفذوا } ثم بيان أن لا مانع عنهم بقوله : { فلا تنتصران } ثم بيان أن لا فداء لهم عنهم بقوله : لا يسأل ، وعلى الوجه الأخير ، بيان أن لا شفيع لهم ولا راحم ( وفائدة أخرى ) وهو أنه تعالى لما بين أن العذاب في الدنيا مؤخر بقوله : { سنفرغ لكم } بين أنه في الآخرة لا يؤخر بقدر ما يسأل ( وفائدة أخرى ) وهو أنه تعالى لما بين أن لا مفر لهم بقوله : { لا تنفذون } ولا ناصر لهم يخلصهم بقوله : { فلا تنتصران } بين أمرا آخر ، وهو أن يقول المذنب : ربما أنجو في ظل خمول واشتباه حال ، فقال : ولا يخفى أحد من المذنبين بخلاف أمر الدنيا ، فإن الشرذمة القليلة ربما تنجو من العذاب العام بسبب خمولهم .