{ اللّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِن نّصِيبٍ }
يقول تعالى ذكره : الله ذو لطف بعباده ، يرزق من يشاء فيوسع عليه ويقترّ على من يشاء منهم وَهُوَ القَوِيّ الذي لا يغلبه ذو أيدٍ لشدّته ، ولا يمتنع عليه إذا أراد عقابه بقدرته العَزِيزُ في انتقامه إذا انتقم من أهل معاصيه مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يقول تعالى ذكره : من كان يريد بعمله الاَخرة نزد له في حرثه : يقول : نزد له في عمله الحسن ، فنجعل له بالواحدة عشراً ، إلى ما شاء ربنا من الزيادة وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنيْا نُؤْتِهِ مِنْها يقول : ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى لا للاَخرة ، نؤته منها ما قسمنا له منها وما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ يقول : وليس لمن طلب بعمله الدنيا ، ولم يرد الله به في ثواب الله لأهل الأعمال التي أرادوه بأعمالهم في الدنيا حظّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ . . . إلى وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ قال : يقول : من كان إنما يعمل للدنيا نؤته منها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ له فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيا . . . الاَية ، يقول : من آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيباً في الاَخرة إلا النار ، ولم نزده بذلك من الدنيا شيئاً إلا رزقاً قد فرغ منه وقسم له .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قال : من كان يريد الاَخرة وعملها نزد له في عمله وَمنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنيْا نُؤْتِهِ مِنْها . . . إلى آخر الاَية ، قال : من أراد الدنيا وعملها آتيناه منها ، ولم نجعل له في الاَخرة من نصيب الحرث العمل ، من عمل للاَخرة أعطاه الله ، ومن عمل للدنيا أعطاه الله .
حدثني محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : مَنْ كانَ يُرِدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قال : من كان يريد عمل الاَخرة نزد له في عمله .
وقوله : وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ قال : للكافر عذاب أليم .
هذه الجملة توطئة لجملة { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } [ الشورى : 20 ] لأن ما سيذكر في الجملة الآتية هو أثر من آثار لطف الله بعباده ورفقه بهم وما يَسَّر من الرزق للمؤمنين منهم والكفار في الدّنيا ، ثم ما خصّ به المؤمنين من رزق الآخرة ، فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً مقدِّمة لاستئناف الجملة الموطَّإ لها ، وهي جملة { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } الآية [ الشورى : 20 ] . وموقع جملة من كان يريد حرث الآخرة } الخ فسنبينه .
واللطيف : البَر القوي البِرّ . ويدخل في هذا كثير من النعم . فسّر عدد من المفسّرين اللطيف بواهب بعضها وإنما هو تفسيرُ تمثيل لا يخُصُّ دلالةَ الوصف به . وفعل ( لَطَف ) من باب نصر يتعدى بالباء كما هنا وباللام كما في قوله : { إن ربّي لطيفٌ لما يشاء } كما تقدم في سورة يوسف ( 100 ) . وتقدم تحقيقُ معنى اسمه تعالى اللطيف .
وعباده عام لجميع العباد ، وهم نوع الإنسان لأنه جمع مضاف . وجملة { يرزق من يشاء } في موضع الحال من اسم الجلالة ، أو في موضع خبر عنه .
والرزق : إعطاء ما ينفع . وهو عندنا لا يختص بالحلال وعند المعتزلة يختص به والخلاف اصطلاح .
والظاهر : أن المراد هنا رزق الدّنيا لأن الكلام توطئة لقوله : { من كان يريد حرث الآخرة } [ الشورى : 20 ] .
والمشيئة : مشيئة تقدير الرّزق لكل أحد من العباد ليكون عموم اللطف للعباد باقياً ، فلا يكون قوله : { من يشاء } في معنى التكرير ، إذ يصير هكذا يرزق من يشاء من عباده الملطوففِ بجميعهم ، وما الرزق إلا من اللطف ، فيصيرُ بعضَ المعنى المفاد ، فلا جرم تعيّن أن المشيئة هنا مصروفة لمشيئة تقدير الرزق بمقاديره .
والمعنى : أنه للطفه بجميع عباده لا يترك أحداً منهم بلا رزق وأنه فضل بعضهم على بعض في الرزق جرياً على مشيئته . وهذا المعنى يثير مسألة الخلاف بين أيمة أصول الدّين في نعمة الكافر ، ومِن فروعها رزقُ الكافر . وعن الشيخ أبي الحسن الأشعري أن الكافر غير منعم عليه نعمةً دنيوية لأن ملاذّ الكافر استدراج لمَّا كانت مفضية إلى العذاب في الآخرة فكانت غير نعمة ، ومرادهم بالدنيوية مقابل الدينية . وكأنَّ مراد الشيخ بهذا تحقيق معنى غضب الله على الكافرين كما جاء في آيات كثيرة ، فمراده : أن الكافر غير مُنْعَم عليه نعمةَ رضى وكرامةٍ ولكنها نعمة رحمة لما له من انتساب المخلوقية لله تعالى .
وقال أبو بكر الباقلاني : الكافر منعَم عليه نعمة دُنيوية . وقالت المعتزلة : هو منعم عليه نعمة دنيوية ودينية : فالدنيوية ظاهرة ، والدّينية كالقُدرة على النظر المؤدي إلى معرفة الله .
وهذه مسألة أرجع المحققون الخلافَ فيها إلى اللفظ والبناءِ على المصطلحات والاعتبارات الموافقة لدقائق المذاهب ، إذ لا ينازع أحد في نعمة المنعمين منهم وقد قال تعالى : { وذرْني والمُكذبين أولي النَّعْمَة } [ المزمل : 11 ] .
وعُطف { وهو القوي العزيز } على صفة { لطيف } أو على جملة { يرزق من يشاء } وهو تمجيد لله تعالى بهاتين الصفتين ، ويفيد الاحتراس من توهم أن لطفه عن عجز أو مصانعة ، فإنه قوي عزيز لا يَعجز ولا يصانِع ، أو عن توهم أن رزقه لمن يشاء عن شحّ أو قِلّةٍ فإنه القويّ ، والقوي تنتفي عنه أسباب الشحّ ، والعزيز ينتفي عنه سبب الفقر فرزقه لمن يشاء بما يشاء منوط لحكمة عَلِمها في أحوال خلقه عامة وخاصة ، قال تعالى : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكِنْ ينزِّل بقَدَر ما يشاء } [ الشورى : 27 ] الآية .
والإخبار عن اسم الجلالة بالمسند المعَرّففِ باللام يفيد معنى قصر القوة والعزة عليه تعالى ، وهو قصر الجنس للمبالغة لكماله فيه تعالى حتى كأنَّ قوة غيره وعزّة غيره عَدَم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.