الدرس الخامس : 54 - 55 الناس في قبضة الله والتفضيل لأنبياء الله
وبعد هذه اللفتة يعود السياق إلى مصائر القوم يوم يدعوهم فيستجيبون بحمده ، فإذا المصير كله بيد الله وحده ، إن شاء رحم ، وإن شاء عذب ، وهم متروكون لقضاء الله ، وما الرسول عليهم بوكيل ، إن هو إلا رسول :
( ربكم أعلم بكم ، إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم ، وما أرسلناك عليهم وكيلا . وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ) . .
فالعلم المطلق لله . وهو يرتب على كامل علمه بالناس رحمتهم أو عذابهم . وعند البلاغ تنتهي وظيفة الرسول .
القول في تأويل قوله تعالى : { رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش الذين قالوا أئِذَا كُنّا عِظاما وَرُفاتا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا : رَبّكُمْ أيها القوم أعْلَمُ بِكُمْ إنْ يَشأْ يَرْحَمُكُمْ فيتوب عليكم برحمته ، حتى تنيبوا عما أنتم عليه من الكفر به وباليوم الاَخر وَإنْ يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ بأن يخذلكم عن الإيمان ، فتموتوا على شرككم ، فيعذّبكم يوم القيامة بكفركم به . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عبد الملك بن جريج قوله : رَبّكُمْ أعْلَمُ بِكُمْ إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ قال : فتؤمنوا أوْ إنْ يَشأْ يُعَذّبْكُمْ فتموتوا على الشرك كما أنتم .
وقوله : وَما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك يا محمد على من أرسلناك إليه لتدعوه إلى طاعتنا ربا ولا رقيبا ، إنما أرسلناك إليهم لتبلغهم رسالاتنا ، وبأيدينا صرفهم وتدبيرهم ، فإن شئنا رحمناهم ، وإن شئنا عذّبناهم .
وقوله تعالى : { ربكم أعلم بكم } الآية ، هذه الآية تقوي أن التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة ؛ وذلك أن هذه المخاطبة في قوله { ربكم أعلم بكم } هي لكفار مكة بدليل قوله { وما أرسلناك عليهم وكيلاً } فكأن الله عز وجل أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال للكفار إنه أعلم بهم ، ورجاهم وخوفهم ، ومعنى { يرحمكم } بالتوبة عليكم من الكفر ، قاله ابن جريج وغيره ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإنما عليك البلاغ ، ولست بوكيل على إيمانهم ولا بد ، فتتناسب الآيات بهذا التأويل .
هذا الكلام متصل بقوله : { نحن أعلم بما يستمعون به } إلى قوله : { فلا يستطيعون سبيلا } [ الإسراء : 47 ، 48 ] . فإن ذلك ينطوي على ما هو شأن نجواهم من التصميم على العناد والإصرار على الكفر . وذلك يسوء النبي ويحزنه أن لا يهتدوا ، فوُجه هذا الكلام إليه تسلية له . ويدل لذلك تعقيبه بقوله : { وما أرسلناك عليهم وكيلا } .
ومعنى { إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } على هذا الكنايةُ عن مشيئة هديْه إياهم الذي هو سبب الرحمة ، أو مشيئة تركهم وشأنَهم . وهذا أحسن ما تفسر به هذه الآية ويبين موقعها ، وما قيل غيره أراه لا يلتئم .
وأوتي بالمسند إليه بلفظ الرب مضافاً إلى ضمير المؤمنين الشامل للرسول تذكيراً بأن الاصطفاء للخير شأن من معنى الربوبية التي هي تدبير شؤون المربوبين بما يليق بحالهم ، ليكون لإيقاع المسند على المسند إليه بعد ذلك بقوله : { أعلم بكم } وقعٌ بديع ، لأن الذي هو الرب هو الذي يكون أعلم بدخائل النفوس وقابليتها للاصطفاء .
وهذه الجملة بمنزلة المقدمة لما بعدها وهي جملة { إن يشأ يرحمكم } الآية ، أي هو أعلم بما يناسب حال كل أحد من استحقاق الرحمة واستحقاق العذاب .
ومعنى { أعلم بكم } أعلم بحالكم ، لأن الحالة هي المناسبة لتعلق العلم .
فجملة { إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } مبينة للمقصود من جملة { ربكم أعلم بكم } .
والرحمة والتعذيب مكنًى بهما عن الاهتداء والضلال ، بقرينة مقارنته لقوله : { ربكم أعلم بكم } الذي هو كالمقدمة . وسلك سبيل الكناية بهما لإفادة فائدتين : صريحهما وكنايتهما ، ولإظهار أنه لا يسأل عما يَفعل ، لأنه أعلم بما يليق بأحوال مخلوقاته . فلما ناط الرحمة بأسبابها والعذابَ بأسبابه ، بحكمته وعدله ، عُلم أن معنى مشيئته الرحمة أو التعذيب هو مشيئة إيجاد أسبابهما ، وفعل الشرط محذوف . والتقدير : إن يشأ رحمتَكم يرحمْكم أو إن يشأ تعذيبَكم يعذبْكم ، على حكم حذف مفعول فعل المشيئة في الاستعمال .
وجيء بالعطف بحرف ( أو ) الدالة على أحد الشيئين لأن الرحمة والتعذيب لا يجتمعان ف ( أو ) للتقسيم .
وذكر شرط المشيئة هنا فائدته التعليم بأنه تعالى لا مكره له ، فجمعت الآية الإشارة إلى صفة العلم والحكمة وإلى صفة الإرادة والاختيار .
وإعادةُ شرط المشيئة في الجملة المعطوفة لتأكيد تسلط المشيئة على الحالتين .
وجملة { وما أرسلناك عليهم وكيلاً } زيادة لبيان أن الهداية والضلال من جعل الله تعالى ، وأن النبي غير مسؤول عن استمرار من استمر في الضلالة . إزالة للحرج عنه فيما يجده من عدم اهتداء من يدعوهم ، أي ما أرسلناك لتجبرهم على الإيمان وإنما أرسلناك داعياً .
والوكيل على الشيء : هو المسؤول به . والمعنى : أرسلناك نذيراً وداعياً لهم وما أرسلناك عليهم وكيلاً ، فيفيد معنى القصر لأن كونه داعياً ونذيراً معلوم بالمُشاهدة فإذا نفي عنه أن يكون وكيلاً وملجئاً آل إلى معنى : ما أنت إلا نذير .
وضمير { عليهم } عائد إلى المشركين ، كما عادت إليهم ضمائر { على قلوبهم } [ الإسراء : 46 ] وما بعده من الضمائر اللائقة بهم .
وعليهم } متعلق ب { وكيلا } . وقدم على متعلقه للاهتمام وللرعاية على الفاصلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أو إن يشاء يعذبكم}، فيميتكم على الكفر...
{وما أرسلناك عليهم وكيلا}، يعني: مسيطرا عليهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش الذين قالوا "أئِذَا كُنّا عِظاما وَرُفاتا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا": "رَبّكُمْ أيها القوم أعْلَمُ بِكُمْ إنْ يَشأْ يَرْحَمُكُمْ "فيتوب عليكم برحمته، حتى تنيبوا عما أنتم عليه من الكفر به وباليوم الآخر "وَإن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ" بأن يخذلكم عن الإيمان، فتموتوا على شرككم، فيعذّبكم يوم القيامة بكفركم به... وقوله: "وَما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً" يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك يا محمد على من أرسلناك إليه لتدعوه إلى طاعتنا ربا ولا رقيبا، إنما أرسلناك إليهم لتبلغهم رسالاتنا، وبأيدينا صرفهم وتدبيرهم، فإن شئنا رحمناهم، وإن شئنا عذّبناهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ربكم أعلم بكم} هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: {ربكم أعلم بكم} بمصالحكم ومفاسدكم وما يصلح لكم في الدنيا والآخرة.
والثاني: {ربكم أعلم بكم} بما تسرون وما تعلنون، وما تعلمون وما تفعلون، وإلا فلا شك أنه أعلم بنا منا...
{إن يشأ يرحمكم} يحتمل الرحمة في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فهو أن يوفقهم على الطاعة ويعينهم على ذلك. وفي الآخرة ينجيهم ويدخلهم الجنة.
{أو إن يشأ يعذبكم} في الدنيا، هو أن يخذلهم، ويتركهم، على ما يختارون، وفي الآخرة يعذبهم في النار بالذي اختاروا في الدنيا...
{وما أرسلناك عليهم وكيلا} قال بعضهم: أي لم نجعلك حفيظا على ردهم وإجابتهم وعلى صنيعهم. وقال بعضهم: {وكيلا} أي ثقيلا بأعمالهم، أي لا تؤاخذ أنت بصنيعهم كقوله... وقال بعضهم: {وما أرسلناك عليهم وكيلا} أي مسلطا عليهم وقاهرا لهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وربكم أعلم بكم" معناه التحذير لعباده من إضمار القبيح، والترغيب في الجميل، لأنه عالم به يقدر أن يجازي على كل واحد منه بما هو حقه
"إن يشأ يرحمكم" بالتوبة، "وإن يشأ يعذبكم" بالإقامة على المعصية...
"وما أرسلناك عليهم وكيلا" معناه إنا ما وكلناك بمنعهم من الكفر بل أرسلناك داعيا لهم إلى الإيمان وزاجرا عن الكفر، فإن أجابوك وإلا فلا شيء عليك واللائمة والعقوبة يحلان بهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
سَدَّ على كلِّ أحدٍ طريقَ معرفته بنفسه ليتعلَّق كُلُّ قلبه بربه. وجَعَلَ العواقبَ على أربابها مشتبهةً، فقال {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} ثم قدَّمَ حديثَ الرحمةِ على حديث العذاب، فقال: {إِن يَشَأْ يِرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} وفي ذلك تَرَجِّ للأمل أَنْ يَقْوى. ويوصف العبدُ بالعلم ويوصف الربُّ بالعلم، ولكن العبدَ يعلم ظاهرَ حاله، وعِلْمُ الرب يكون بحاله وبمآله، ولهذا فالواجب على العبد أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، وهذا معنى: {إِن يَشَأْ يِرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} بعد قوله: {أَعْلَمُ بِكُمْ}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ} يعني: يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها، ولا يقولوا لهم: إنكم من أهل النار وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر...
{وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أي رباً موكولاً إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه، وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً؛ فدارهم ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال وترك المحاقة والمكاشفة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ربكم أعلم بكم...}، هذه الآية تقوي أن التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة؛ وذلك أن هذه المخاطبة في قوله {ربكم أعلم بكم} هي لكفار مكة بدليل قوله {وما أرسلناك عليهم وكيلاً} فكأن الله عز وجل أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين، ثم قال للكفار إنه أعلم بهم، ورجاهم وخوفهم...
ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلناك عليهم وكيلا} أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم في القول، والمقصود من كل هذه الكلمات: إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة، فإن ذلك هو الذي يؤثر في القلب ويفيد حصول المقصود...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم فسر "التي هي أحسن "مما علمهم ربهم من النصفة بقوله تعالى: {ربكم أعلم بكم} ثم استأنف فقال تعالى: {إن يشأ} رحمتكم {يرحمكم} بأن ييسر لكم أفعال الخير {أو إن يشأ} عذابكم {يعذبكم} بأن ييسركم لأفعال الشر، فإذا قالوا لهم ذلك كانوا جديرين بأن يعرضوا -أو من أراد الله منهم- أفعالهم على ما يعلمونه من الخير والشر فينظروا أيهما أقرب إليها، وربما ردهم ذلك من أنفسهم عن الفساد، لحسم مادة العناد، ويجوز -وهو- عندي أحسن -أن تكون الآية استئنافاً واقعاً موقع التعليل للأمر بقول الأحسن، أي {ربكم} أيها العباد {أعلم بكم} وبما يؤول أمركم إليه من سعادة وشقاوة {إن يشأ يرحمكم} بهدايتكم {أو إن يشأ يعذبكم} بإضلالكم، فلا تحتقروا أيها المؤمنون المشركين فتقطعوا بأنهم من أهل النار فتعيروهم بذلك، فإنه يجر إلى الإحن وحر الصدور وغيظ القلوب بلا فائدة، لأن الخاتمة مجهولة، ولا تتجاوزوا فيهم ما آمركم به من قول وفعل فإنه الأحسن...
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
من أدب الجدال: فلا يقال للكافر عند دعوته أو مجادلته: إنك من أهل النار، ولكن تذكر الأدلة على بطلان الكفر، وسوء عاقبته. و لا يقال للمبتدع: يا ضال، وإنما تبين البدعة وقبحها. و لا يقال لمرتكب الكبيرة: يا فاسق، ولكن يبين قبح تلك الكبيرة و ضررها وعظم إثمها. فتقبح القبائح و الرذائل في نفسها، وتجتذب أشخاص مرتكبيها. إذ رب شخص هو اليوم من أهل الكفر و الضلال تكون عاقبته إلى الخير والكمال. ورب شخص هو اليوم من أهل الإيمان ينقلب – والعياذ بالله تعالى – على عقبه في هاوية الوبال...
فلا يحملنهم بغض الكفر و المعصية على السوء في القول لأهلها؟ فإنما عليهم تبليغ الحق كما بلغه نبيهم صلى الله عليه و آله وسلم. و لن يكون أحد أحرص منه على تبليغه؛ فحسبهم أن يكونوا على سنته وهديه. أحيانا الله عليهما، و أماتنا عليهما، و حشرنا في زمرة أهلهما. آمين.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} من أنفسكم فلذلك لا يريد لكم إلا ما هو الخير ولا يأمركم إلا بما فيه مصلحة لكم وقد تريدون شيئا والخير في عكسه...
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} تدبر أمرهم وتقوم بمجازاتهم وإنما الله هو الوكيل وأنت مبلغ هاد إلى صراط مستقيم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى {إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم} على هذا الكنايةُ عن مشيئة هديْه إياهم الذي هو سبب الرحمة، أو مشيئة تركهم وشأنَهم. وهذا أحسن ما تفسر به هذه الآية ويبين موقعها، وما قيل غيره أراه لا يلتئم... وأوتي بالمسند إليه بلفظ الرب مضافاً إلى ضمير المؤمنين الشامل للرسول تذكيراً بأن الاصطفاء للخير شأن من معنى الربوبية التي هي تدبير شؤون المربوبين بما يليق بحالهم، ليكون لإيقاع المسند على المسند إليه بعد ذلك بقوله: {أعلم بكم} وقعٌ بديع، لأن الذي هو الرب هو الذي يكون أعلم بدخائل النفوس وقابليتها للاصطفاء...
وهذه الجملة بمنزلة المقدمة لما بعدها وهي جملة {إن يشأ يرحمكم} الآية، أي هو أعلم بما يناسب حال كل أحد من استحقاق الرحمة واستحقاق العذاب... ومعنى {أعلم بكم} أعلم بحالكم، لأن الحالة هي المناسبة لتعلق العلم. فجملة {إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم} مبينة للمقصود من جملة {ربكم أعلم بكم}. والرحمة والتعذيب مكنًى بهما عن الاهتداء والضلال، بقرينة مقارنته لقوله: {ربكم أعلم بكم} الذي هو كالمقدمة. وسلك سبيل الكناية بهما لإفادة فائدتين: صريحهما وكنايتهما، ولإظهار أنه لا يسأل عما يَفعل، لأنه أعلم بما يليق بأحوال مخلوقاته. فلما ناط الرحمة بأسبابها والعذابَ بأسبابه، بحكمته وعدله، عُلم أن معنى مشيئته الرحمة أو التعذيب هو مشيئة إيجاد أسبابهما، وفعل الشرط محذوف. والتقدير: إن يشأ رحمتَكم يرحمْكم أو إن يشأ تعذيبَكم يعذبْكم، على حكم حذف مفعول فعل المشيئة في الاستعمال... وجيء بالعطف بحرف (أو) الدالة على أحد الشيئين لأن الرحمة والتعذيب لا يجتمعان ف (أو) للتقسيم. وذكر شرط المشيئة هنا فائدته التعليم بأنه تعالى لا مكره له، فجمعت الآية الإشارة إلى صفة العلم والحكمة وإلى صفة الإرادة والاختيار. وإعادةُ شرط المشيئة في الجملة المعطوفة لتأكيد تسلط المشيئة على الحالتين...
وجملة {وما أرسلناك عليهم وكيلاً} زيادة لبيان أن الهداية والضلال من جعل الله تعالى، وأن النبي غير مسؤول عن استمرار من استمر في الضلالة. إزالة للحرج عنه فيما يجده من عدم اهتداء من يدعوهم، أي ما أرسلناك لتجبرهم على الإيمان وإنما أرسلناك داعياً. والوكيل على الشيء: هو المسؤول به. والمعنى: أرسلناك نذيراً وداعياً لهم وما أرسلناك عليهم وكيلاً، فيفيد معنى القصر لأن كونه داعياً ونذيراً معلوم بالمُشاهدة فإذا نفي عنه أن يكون وكيلاً وملجأ آل إلى معنى: ما أنت إلا نذير... وضمير {عليهم} عائد إلى المشركين، كما عادت إليهم ضمائر {على قلوبهم} [الإسراء: 46] وما بعده من الضمائر اللائقة بهم. وعليهم} متعلق ب {وكيلا}. وقدم على متعلقه للاهتمام وللرعاية على الفاصلة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بناءً على الرأيين السابقين في تفسير مَن المخاطَب في تعبير (عبادي) فإنَّ هَذِهِ الآية أيضاً وَتبعاً لما سبق تَحتَمِلُ تفسيرين هما:
الأوّل: أيّها المشركون؛ إنَّ ربّكم ذو رحمة واسعة، وذو عقاب اليم، وَسيشملكم مُنهما ما يلائم أعمالكم، وَلكن الأفضل أن تتوسلوا برحمته الواسعة وَتحذروا عذابه.
الثّاني: لا تظنوا أيّها المؤمنون بأنّكم وحدكم الناجون، وأن غيركم سيكون مصيره النّار، فالله أعلم بأعمالكم وَنواياكم، وَلو أراد عزَّ وجلّ لأخذكم بذنوبكم، وَلو شاء لشملكم برحمته، ففكروا قليلا في أنفسكم وَليكن حكمكم على أنفسكم والآخرين بالإنصاف... وَبالرغم مِن أنَّ المخاطب في الآية هو الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاَّ أنَّ مِن غير المستبعد أن يكون هدف الخطاب جميع المؤمنين. وَهَذا دليل آخر على التّفسير الثّاني للمعنى مِن خطاب (عبادي)، إذ يقول القرآن للمؤمنين: إِنَّ مسؤوليتكم هي الدعوة سواء آمنوا أم لم يؤمنوا...