ثم يرسم مشهدا سريعا لذلك اليوم :
( يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده ، وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ) . .
وهو مشهد يصور أولئك المكذبين بالبعث المنكرين له ، وقد قاموا يلبون دعوة الداعي ، وألسنتهم تلهج بحمد الله . ليس لهم سوى هذه الكلمة من قول ولا جواب !
وهو جواب عجيب ممن كانوا ينكرون اليوم كله وينكرون الله ، فلا يكون لهم جواب إلا أن يقولوا : الحمد لله . الحمد لله !
ويومئذ تنطوي الحياة الدنيا كما ينطوي الظل : ( وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ) .
وتصوير الشعور بالدنيا على هذا النحو يصغر من قيمتها في نفوس المخاطبين ، فإذا هي قصيرة قصيرة ، لا يبقى من ظلالها في النفس وصورها في الحس ، إلا أنها لمحة مرت وعهد زال وظل تحول ، ومتاع قليل .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنّونَ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً * وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ الّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ الشّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مّبِيناً } .
يقول تعالى ذكره : قل عسى أن يكون بعثكم أيها المشركون قريبا ، ذلك يوم يدعوكم ربكم بالخروج من قبوركم إلى موقف القيامة ، فتستجيبون بحمده .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله : فتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ فقال بعضهم : فتستجيبون بأمره . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ يقول : بأمره .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ قال : بأمره .
وقال آخرون : معنى ذلك : فتستجيبون بمعرفته وطاعته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ : أي بمعرفته وطاعته .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : معناه : فتستجيبون لله من قبوركم بقدرته ، ودعائه إياكم . ولله الحمد في كلّ حال ، كما يقول القائل : فعلت ذلك الفعل بحمد الله ، يعني : لله الحمد عن كلّ ما فعلته ، وكما قال الشاعر :
فإنّي بِحَمْد الله لا ثَوْبَ فاجِرٍ *** لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنّعُ
بمعنى : فإني والحمد لله لا ثوب فاجر لبست .
وقوله : وَتَظُنّونَ إنْ لَبثْتُمْ إلاّ قَلِيلاً يقول : وتحسِبون عند موافاتكم القيامة من هول ما تعاينون فيها ما لبثتم في الأرض إلا قليلاً ، كما قال جلّ ثناؤه قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْض عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسألِ العادّينَ . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَتَظُنّونَ إنْ لَبِثْتُمْ إلاّ قَلِيلاً : أي في الدنيا ، تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقلّت ، حين عاينوا يوم القيامة .
{ يوم } : بدل من قوله { قريباً } [ الإسراء : 51 ] ، ويظهر أن يكون المعنى : هو يوم ، جواباً لقولهم : { متى هو } [ ذاته ] ويريد : يدعوكم من قبوركم بالنفخ في الصور ، لقيام الساعة ، وقوله { فتستجيبون } أي بالقيام والعودة والنهوض نحو الدعوة ، وقوله : { بحمده } ، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال معناه : بأمره ، وكذلك قال ابن جريج ، وقال قتادة معناه : بطاعته ومعرفته ، وهذا كله تفسير لا يعطيه اللفظ ولا شك أن جيمع ذلك بأمر الله تعالى وإنما معنى { بحمده } : إما أن جميع العالمين ، كما قال ابن جبير ، يقومون وهم يحمدون الله ويحمدونه لما يظهر لهم من قدرته ، وإما أن قوله { بحمده } هو كما تقول لرجل خصمته وحاورته في علم قد أخطأت بحمد الله{[7597]} ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم في هذه الآيات : عسى ، أن الساعة قريبة ، يوم يدعون فيقومون بخلاف ما تعتقدون الآن ، وذلك بحمد الله على صدق خبري ، نحا هذا المنحى الطبري ولم يخلصه ، وقوله تعالى { وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً } يحتمل معنيين : أحدهما أنه أخبر أنهم لما رجعوا إلى حالة الحياة ، وتصرف الأجساد ، وقع لهم ظن أنهم لم ينفصلوا عن حال الدنيا إلا قليلاً لمغيب علم مقدار الزمن عنهم ، إذ من في الآخرة لا يقدر زمن الدنيا ، إذ هم لا محالة أشد مفارقة لها من النائمين ، وعلى هذا التأويل عول الطبري ، واحتج بقوله تعالى : { كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أبو بعض يوم }{[7598]} ، والآخر : أن يكون الظن بمعنى اليقين فكأنه قال لهم : يوم تدعون فتستجيبون بحمد الله ، وتتيقنون أنكم إنما لبثتم قليلاً ، من حيث هو منقض منحصر ، وهذا كما يقال في الدنيا بأسرها : متاع قليل ، فكأنه قلة قدر على أن الظن بمعنى اليقين يقلق ها هنا لأنه في شيء قد وقع ، وإنما يجيء الظن بمعنى اليقين فيما لم يخرج بعد إلى الكون والوجود ، وفي الكلام تقوية للبعث ، كأنه يقول : أنت أيها المكذب بالحشر ، الذي تعتقد أنك لا تبعث أبداً ، لا بد أن تدعى للبعث ، فتقوم ، وترى أنك إنما لبثت قليلاً منقضياً منصرماً . وحكى الطبري عن قتادة أنهم لما رأوا هول يوم القيامة احتقروا الدنيا فظنوا أنهم لبثوا فيها قليلاً .
و{ يوم يدعوكم } بدل من الضمير المستتر في { يكون } من قوله : { أن يكون قريباً } . وفتحته فتحة بناء لأنه أضيف إلى الجملة الفعلية .
ويجوز أن يكون ظرفاً ل { يكون } ، أي يكون يوم يدعوكم ، وفتحته فتحة نصب على الظرفية .
والدعاء يجوز أن يحمل على حقيقته ، أي دعاء الله الناس بواسطة الملائكة الذين يسوقون الناس إلى المحشر .
ويجوز أن يحمل على الأمر التكويني بإحيائهم ، فأطلق عليه الدعاء لأن الدعاء يستلزم إحياء المدعو وحصول حضوره ، فهو مجاز في الإحياء والتسخير لحضور الحساب .
والاستجابة مستعارة لمطاوعة معنى { يدعوكم } ، أي فتحيون وتمثلون للحساب . أي يدعوكم وأنتم عظام ورفات . وليس للعظام والرفات إدراك واستماع ولا ثم استجابة لأنها فرع السماع وإنما هو تصوير لسرعة الإحياء والإحضار وسرعة الانبعاث والحضور للحساب بحيث يحصل ذلك كحصول استماع الدعوة واستجابتها في أنه لا معالجة في تحصيله وحصوله ولا ريث ولا بطْء في زمانه .
وضمائر الخطاب على هذا خطاب للكفار القائلين { من يعيدنا } والقائلين { متى هو } .
والباء في { بحمده } للملابسة ، فهي في معنى الحال ، أي حامدين ، فهم إذا بعثوا خلق فيهم إدراك الحقائق فعلموا أن الحق لله .
ويجوز أن يكون { بحمده } متعلقاً بمحذوف على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والتقدير : انطق بحمده ، كما يقال : باسم الله ، أي ابتدىء ، وكما يقال للمعرس : باليمن والبركة ، أي احمد الله على ظهور صدق ما أنبأتكم به ، ويكون اعتراضاً بين المتعاطفات .
وقيل : إن قوله : { يوم يدعوكم } استئناف كلام خطاب للمؤمنين فيكون { يوم يدعوكم } متعلقاً بفعل محذوف ، أي اذكروا يوم يدعوكم . والحمد على هذا الوجه محمول على حقيقته ، أي تستجيبون حامدين الله على ما منحكم من الإيمان وعلى ما أعد لكم مما تشاهدون حين انبعاثكم من دلائل الكرامة والإقبال .
وأما جملة { وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً } فهي عطف على { تستجيبون } ، أي وتحسبون أنكم ما لبثتم في الأرض إلا قليلاً . والمراد : التعجيب من هذه الحالة ، ولذلك جاء في بعض آيات أخرى سؤال المولى حين يبعثون عن مدة لبثهم تعجيباً من حالهم ، قال تعالى : { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون } [ المؤمنون : 112 114 ] ، وقال : { فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام } [ البقرة : 259 ] . وهذا التعجيب تنديم للمشركين وتأييد للمؤمنين . والمراد هنا : أنهم ظنوا ظناً خاطئاً ، وهو محل التعجيب . وأما قوله في الآية الأخرى : قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون فمعناه : أنه وإن طال فهو قليل بالنسبة لأيام الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: {يوم يدعوكم} من قبوركم في الآخرة،
{فتستجيبون بحمده}، يعني: تجيبون الداعي بأمره،
{وتظنون}، يعني: وتحسبون {إن}، يعني: ما {لبثتم} في القبور،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قل عسى أن يكون بعثكم أيها المشركون قريبا، ذلك يوم يدعوكم ربكم بالخروج من قبوركم إلى موقف القيامة، "فتستجيبون بحمده".
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: "فتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ"؛
فقال بعضهم: فتستجيبون بأمره... وقال آخرون: معنى ذلك: فتستجيبون بمعرفته وطاعته...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: معناه: فتستجيبون لله من قبوركم بقدرته، ودعائه إياكم. ولله الحمد في كلّ حال...
وقوله: "وَتَظُنّونَ إنْ لَبثْتُمْ إلاّ قَلِيلاً" يقول: وتحسِبون عند موافاتكم القيامة من هول ما تعاينون فيها ما لبثتم في الأرض إلا قليلاً، كما قال جلّ ثناؤه: "قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْض عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسألِ العادّينَ"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل هذا الدعاء والإجابة دعاء الخلقة وإجابة الخلقة لما كانت خلقتهم، تعظم ربهم، وتحمد في كل وقت وتثني، ويحتمل دعاء القول وإجابة القول والعمل لما كانوا عاينوا قدرته وعظمته أجابوا له بحمده وثنائه كقوله: {مهطعين إلى الداع} (القمر: 8) ونحوه. أو أن يكون قوله {يوم يدعوكم} يوم القيامة كقوله: {يوم يدع الداع إلى شيء نكر} (القمر: 6) وقوله (مهطعين مقنعي رءوسهم} الآية (إبراهيم: 43). أخبر أنهم يجيبون داعيهم يومئذ، ويثنون على الله، ويحمدونه. وقوله تعالى: {إن لبثتم إلا قليلا} قال الحسن قوله: {وتظنون} أي تعلمون، وتتيقنون أنكم ما لبثتم في الدنيا إلا قليلا. فإذن هم استقلوا لك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... المعنى: يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون. وقوله {بِحَمْدِهِ} حال منهم، أي حامدين، وهي مبالغة في انقيادهم للبعث، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشقّ عليه فيتأبى ويتمنع ستركبه وأنت حامد شاكر، يعني: أنك تحمل عليه وتقسر قسراً حتى إنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يوم}: بدل من قوله {قريباً} [الإسراء: 51]، ويظهر أن يكون المعنى: هو يوم، جواباً لقولهم: {متى هو} [ذاته] ويريد: يدعوكم من قبوركم بالنفخ في الصور، لقيام الساعة... وقوله {فتستجيبون} أي بالقيام والعودة والنهوض نحو الدعوة... وقوله: {بحمده}، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال معناه: بأمره، وكذلك قال ابن جريج، وقال قتادة معناه: بطاعته ومعرفته، وهذا كله تفسير لا يعطيه اللفظ ولا شك أن جميع ذلك بأمر الله تعالى وإنما معنى {بحمده}: إما أن جميع العالمين، كما قال ابن جبير، يقومون وهم يحمدون الله ويحمدونه لما يظهر لهم من قدرته، وإما أن قوله {بحمده} هو كما تقول لرجل خصمته وحاورته في علم قد أخطأت بحمد الله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم في هذه الآيات: عسى، أن الساعة قريبة، يوم يدعون فيقومون بخلاف ما تعتقدون الآن، وذلك بحمد الله على صدق خبري، نحا هذا المنحى الطبري ولم يخلصه... وقوله تعالى {وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً} يحتمل معنيين:
أحدهما أنه أخبر أنهم لما رجعوا إلى حالة الحياة، وتصرف الأجساد، وقع لهم ظن أنهم لم ينفصلوا عن حال الدنيا إلا قليلاً لمغيب علم مقدار الزمن عنهم، إذ من في الآخرة لا يقدر زمن الدنيا، إذ هم لا محالة أشد مفارقة لها من النائمين، وعلى هذا التأويل عول الطبري، واحتج بقوله تعالى: {كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أبو بعض يوم}،
والآخر: أن يكون الظن بمعنى اليقين فكأنه قال لهم: يوم تدعون فتستجيبون بحمد الله، وتتيقنون أنكم إنما لبثتم قليلاً، من حيث هو منقض منحصر، وهذا كما يقال في الدنيا بأسرها: متاع قليل، فكأنه قلة قدر على أن الظن بمعنى اليقين يقلق ها هنا لأنه في شيء قد وقع، وإنما يجيء الظن بمعنى اليقين فيما لم يخرج بعد إلى الكون والوجود، وفي الكلام تقوية للبعث، كأنه يقول: أنت أيها المكذب بالحشر، الذي تعتقد أنك لا تبعث أبداً، لا بد أن تدعى للبعث، فتقوم، وترى أنك إنما لبثت قليلاً منقضياً منصرماً...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يوم} أي يكون ذلك يوم {يدعوكم}... {بحمده} أي بإحاطته سبحانه بكل شيء قدرة وعلماً من غير تخلف أصلاً، بل لغاية الإذعان كما يرشد إليه صيغة استفعل، وأنتم مع سرعة الإجابة تحمدون الله تعالى، أي تثبتون له صفة الكمال... {وتظنون} مع استجابتكم وطول لبثكم {إن} أي ما {لبثتم} ميتين {إلا قليلاً} لشدة ما ترون من الأهوال التي أحاطت بكم والتي تستقبلكم، أو جهلاً منكم بحقائق الأمور كما هي حالكم اليوم كما ترون من -جدة خلقكم وعدم تغيره...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو مشهد يصور أولئك المكذبين بالبعث المنكرين له، وقد قاموا يلبون دعوة الداعي، وألسنتهم تلهج بحمد الله. ليس لهم سوى هذه الكلمة من قول ولا جواب! وهو جواب عجيب ممن كانوا ينكرون اليوم كله وينكرون الله، فلا يكون لهم جواب إلا أن يقولوا: الحمد لله. الحمد لله!... وتصوير الشعور بالدنيا على هذا النحو يصغر من قيمتها في نفوس المخاطبين، فإذا هي قصيرة قصيرة، لا يبقى من ظلالها في النفس وصورها في الحس، إلا أنها لمحة مرت وعهد زال وظل تحول، ومتاع قليل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والدعاء يجوز أن يحمل على حقيقته، أي دعاء الله الناس بواسطة الملائكة الذين يسوقون الناس إلى المحشر. ويجوز أن يحمل على الأمر التكويني بإحيائهم، فأطلق عليه الدعاء لأن الدعاء يستلزم إحياء المدعو وحصول حضوره، فهو مجاز في الإحياء والتسخير لحضور الحساب...
والاستجابة مستعارة لمطاوعة معنى {يدعوكم}، أي فتحيون وتمثلون للحساب. أي يدعوكم وأنتم عظام ورفات. وليس للعظام والرفات إدراك واستماع ولا ثم استجابة لأنها فرع السماع وإنما هو تصوير لسرعة الإحياء والإحضار وسرعة الانبعاث والحضور للحساب بحيث يحصل ذلك كحصول استماع الدعوة واستجابتها في أنه لا معالجة في تحصيله وحصوله ولا ريث ولا بطْء في زمانه...
{وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً} فهي عطف على {تستجيبون}، أي وتحسبون أنكم ما لبثتم في الأرض إلا قليلاً. والمراد: التعجيب من هذه الحالة... وهذا التعجيب تنديم للمشركين وتأييد للمؤمنين. والمراد هنا: أنهم ظنوا ظناً خاطئاً، وهو محل التعجيب...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{يدعوكم فتستجيبون بحمده} معناه الإشارة إلى أن إعادتهم لا تكون إلا بأمره سبحانه إجابتهم كقوله تعالى: {كن فيكون (117)} [البقرة]، فالدعوة لا مجاز فيها، والاستجابة تكون بالإيجاز كما ذكرنا في الآية الكريمة... والاستجابة هنا معناها الرغبة في الإجابة وطلبها كأنهم كانوا وهم خامدون في قبورهم يتوقعونها، ولا يستغربونها... وقوله تعالى: {بحمده}، أي حالهم تكون حال الحامد الراغب العالم بقدرة الله تعالى لا حال المستنكر أو المستغرب، وكأنهم يكونون في حال غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا من كفر وإنكار، بل هم على حال الإقرار بالله تعالى وأنه وحده المستحق للألوهية سبحانه وتعالى... وفي ذلك إيمان بما لم يكونوا آمنوا به قبل، أي أنهم أدركوا الحقائق على وجهها ولكن كان حمدهم وإدراكهم بعد فوات الوقت، فلم ينفعهم في إبانها ولم ينفعهم حمد، ولا إيمان... هذا على أن اللبث القليل في الدنيا، ولكن نرى كما رأى كثيرون من علماء السلف أن اللبث القليل كان في القبور قبل البعث...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ونبه كتاب الله إلى أن الإنسان مهما تلكأ وتشكك وطال به الأمد فإنه سيبعث من مرقده لا محالة، وأنه لا مناص له من تلبية النداء الإلهي والاستجابة إليه يوم البعث والجمع للحساب... وقوله تعالى {بحمده} بعد قوله {فتستجيبون} إشارة إلى أن أشد الناس إنكارا للبعث وإلحادا فيه لا يسعهم إلا أن يستجيبوا لدعوة الله عندما تدق الساعة، راضين غير ساخطين، مطيعين غير متمردين، على خلاف ما كانوا عليه في الدنيا من شك في البعث، وإنكار الحساب...
هذا في يوم القيامة، حيث لا يستطيع أحد الخروج عن مرادات الحق سبحانه بعد أن كان يستطيع الخروج عنها في الدنيا؛ لأن الخالق سبحانه حين خلق الخلق جعل للإرادة الإنسانية سلطاناً على الجوارح في الأمور الاختيارية، فهو مختار يفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، ويترك ما يشاء، فإرادته أمير على جوارحه، أما الأمور القهرية فلا دخل للإرادة بها.
فإذا جاء اليوم الآخر انحلت الإرادة عن الجوارح، ولم يعد لها سلطان عليها، بدليل أن الجوارح سوف تشهد على صاحبها يوم القيامة: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيءٍ "21 "} (سورة فصلت): لقد كانت لكم ولاية علينا في دنيا الأسباب، أما الآن فنحن جميعاً مرتبطون بالمسبب سبحانه، فلا ولاية لكم علينا الآن؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن يوم القيامة: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار "16 "} (سورة غافر): ففي الدنيا ملك الناس، وجعل مصالح أناس في أيدي آخرين، أما في الآخرة، فالأمر كله والملك كله لله وحده لا شريك له.
فقوله تعالى: {يوم يدعوكم}: أي: يقول لكم اخرجوا من القبور للبعث بالنفخة الثانية في الصور.
{فتستجيبون بحمده}: أي: تقومون في طاعة واستكانة، لا قومة مستنكف أو متقاعس أو متغطرس، فكل هذا انتهى وقته في الدنيا، ونحن الآن في الآخرة.
ونلاحظ أن الحق سبحانه قال: {فتستجيبون}: ولم يقل: فتجيبون؛ لأن استجاب أبلغ في الطاعة والانصياع، كما نقول: فهم واستفهم أي: طلب الفهم، وكذلك (فتستجيبون) أي: تطلبون أنتم الجواب، وتلحون عليه لا تتقاعسون فيه، ولا تتأبون عليه، فتسرعون في القيام. ليس هذا وفقط، بل: {فتستجيبون بحمده}: أي: تسرعون في القيام حامدين الله شاكرين له، ولكن كيف والحمد لا يكون إلا على شيء محبوب؟
نعم، إنهم يحمدون الله تعالى؛ لأنهم عاينوا هذا اليوم الذي طالما ذكرهم به، ودعاهم إلى الإيمان به، والعمل من أجله، وطالما ألح عليهم ودعاهم، ومع ذلك كله جحدوا وكذبوا، وهاهم اليوم يرون ما كذبوه وتتكشف لهم الحقيقة التي أنكروها، فيقومون حامدين لله الذي نبههم ولم يقصر في نصيحتهم. كما أنك تنصح ولدك بالمذاكرة والاجتهاد، ثم يخفق في الامتحان فيأتيك معتذراً: لقد نصحتني ولكني لم أستجب.
إذن: فبيان الحق سبحانه لأمور الآخرة من النعم التي لا يعترف بها الكفار في الدنيا، ولكنهم سيعترفون بها في الآخرة، ويعرفون أنها من أعظم نعم الله عليهم، ولكن بعد فوات الأوان...
ثم يقول تعالى: {وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً}: الظن: خبر راجح؛ لأنهم مذبذبون في قضية البعث لا يقين عندهم بها.
(إن لبثتم) أي: أقمتم في الدنيا، أو في قبوركم؛ لأن الدنيا متاع قليل، ومادامت انتهت فلن يبقى منها شيء. وكذلك في القبور؛ لأن الميت في قبره شبه النائم لا يدرك كم لبث في نومه، ولا يتصور إلا النوم العادي الذي تعوده الناس...