والفوج الأخير في هذا المقطع من السورة :
( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ، وانهارا وسبلا لعلكم تهتدون . وعلامات وبالنجم هم يهتدون ) .
فأما الجبال الرواسي فالعلم الحديث يعلل وجودها ولكنه لا يذكر وظيفتها التي يذكرها القرآن هنا يعلل وجودها بنظريات كثيرة متعارضة أهمها أن جوف الأرض الملتهب يبرد فينكمش ، فتتقلص القشرة الأرضية من فوقه وتتجعد فتكون الجبال والمرتفعات والمنخفضات . ولكن القرآن يذكر أنها تحفظ توازن الأرض . وهذه الوظيفة لم يتعرض لها العلم الحديث .
وفي مقابل الجبال الرواسي يوجه النظر إلى الأنهار الجواري ، والسبل السوالك . والأنهار ذات علاقة طبيعية في المشهد بالجبال ، ففي الجبال في الغالب تكون منابع الأنهار ؛ حيث مساقط الأمطار . والسبل ذات علاقة بالجبال والأنهار . وذات علاقة كذلك بجو الأنعام والأحمال والانتقال .
{ وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لّعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن نِعمه عليكم أيها الناس أيضا ، أن ألقى في الأرض رواسي ، وهي جمع راسية ، وهي الثوابت في الأرض من الجبال . وقوله : أنْ تَمِيدَ بِكُمْ يعني : أن لا تميد بكم ، وذلك كقوله : يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا ، والمعنى : أن لا تضلوا . وذلك أنه جلّ ثناؤه أرسى الأرض بالجبال لئلا يميد خلقه الذي على ظهرها ، بل وقد كانت مائدة قبل أن تُرْسى بها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن قيس بن عباد : أن الله تبارك وتعالى لما خلق الأرض جعلت تمور ، قالت الملائكة : ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدا فأصبحت صبحا وفيها رواسيها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : لما خلق الله الأرض قَمَصَت ، وقالت : أي ربّ أتجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث ؟ قال : فأرسى الله عليها من الجبال ما ترون وما لا ترون ، فكان قرارها كاللحم يترجرج .
والميد : هو الاضطراب والتكفؤ ، يقال : مادت السفينة تميد ميدا : إذا تكفأت بأهلها ومالت ، ومنه الميد الذي يعتري راكب البحر ، وهو الدوار .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أنْ تَمِيدَ بِكُمْ : أن تكفأ بكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله : وألْقَى فِي الأرْضِ روَاسِيَ أنْ تَمِيدُ بِكُمْ قال : الجبال أن تميد بكم . قال : قتادة : سمعت الحسن يقول : لما خلقت الأرض كادت تميد ، فقالوا : ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدا فأصبحوا وقد خُلقت الجبال ، فلم تدر الملائكة مم خُلقت الجبال .
وقوله : وأنهَارا يقول : وجعل فيها أنهارا ، فعطف بالأنهار على الرواسي ، وأعمل فيها ما أعمل في الرواسي ، إذ كان مفهوما معنى الكلام والمراد منه وذلك نظير قول الراجز :
تَسْمَعُ في أجْوَافِهِنّ صَوْرَا *** وفي اليَدَيْنِ حَشّةً وبَوْرَا
والحشة : اليُبس ، فعطف بالحشة على الصوت ، والحشة لا تسمع ، إذ كان مفهوما المراد منه وأن معناه وترى في اليدين حَشّةً .
وقوله : وَسُبُلاً وهي جمع سبيل ، كما الطرق جمع طريق . ومعنى الكلام : وجعل لكم أيها الناس في الأرض سُبلاً وفجاجا تسلكونها وتسيرون فيها في حوائجكم وطلب معايشكم رحمة بكم ونعمة منه بذلك عليكم ولو عماها لهلكتم ضلالاً وحيرة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : سُبُلاً : أي طرقا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : سُبُلاً قال : طرقا . وقوله لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ يقول : لكي تهتدوا بهذه السبل التي جعلها لكم في الأرض إلى الأماكن التي تقصدون والمواضع التي تريدون ، فلا تضلوا وتتحيروا .
وقوله { وألقى في الأرض } الآية ، قال المتأولون { ألقى } بمعنى خلق وجعل .
قال القاضي أبو محمد : وهي عندي أخص من خلق وجعل ، وذلك أن { ألقى } تقتضي أن الله أحدث الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه ، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن الحسن عن قيس بن عباد ، أن الله تعالى لما خلق الأرض ، وجعلت تمور ، فقالت الملائكة ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً ، فأصبحت ضحى وفيها رواسيها . و «الرواسي » الثوابت ، رسا الشيء يرسو إذا ثبت ، ومنه قول الشاعر في صفة الوتد :
وأشعث ترسيه الوليدة بالفهد{[7267]} . . . و { أن } مفعول من أجله ، و «الميد » الاضطراب ، وقوله { أنهاراً } منصوب بفعل مضمر تقديره وجعل أو وخلق أنهاراً . قال القاضي أبو محمد : وإجماعهم على إضمار هذه الفعل دليل على خصوص ل { ألقى } ولو كانت { ألقى } بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار ، و «السبل » الطرق ، وقوله { لعلكم تهتدون } في مشيكم وتصرفكم في السبل ، ويحتمل { لعلكم تهتدون } بالنظر في هذه المصنوعات على صانعها ، وهذا التأويل هو البارع ، أي سخر وألقى وجعل أنهاراً وسبلاً لعل البشر يعتبر ويرشد ولتكون علامات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.