( رب السماوات والأرض وما بينهما ) . . فلا ربوبية لغيره ، ولا شرك معه في هذا الكون الكبير .
( فاعبده واصطبر لعبادته ) . . اعبده واصطبر على تكاليف العبادة . وهي تكاليف الارتقاء إلى أفق المثول بين يدي المعبود ، والثبات في هذا المرتقى العالي . اعبده واحشد نفسك وعبى ء طاقتك للقاء والتلقي في ذلك الأفق العلوي . . إنها مشقة . مشقة التجمع والاحتشاد والتجرد من كل شاغل ، ومن كل هاتف ومن كل التفات . . وإنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق . ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة ، وإلا بالتجرد لها ، والاستغراق فيها ، والتحفز لها بكل جارحة وخالجة . فهي لا تفشي سرها ولا تمنح عطرها إلا لمن يتجرد لها ، ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعا .
( فاعبده واصطبر لعبادته ) . . والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر . إنما هي كل نشاط : كل حركة . كل خالجة . كل نية . كل اتجاه . وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه . مشقة تحتاج إلى الاصطبار . ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط الأرض إلى السماء . خالصا من أوشاب الأرض وأوهاق الضرورات ، وشهوات النفس ، ومواضعات الحياة .
إنه منهج حياة كامل ، يعيش الإنسان وفقه ، وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله ؛ فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهر الوضيء . وإنه لمنهج يحتاج إلى الصبر والجهد والمعاناة .
فاعبده واصطبر لعبادته . . فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود والذي تتجه إليه الفطر والقلوب . . ( هل تعلم له سميا ? ) . هل تعرف له نظيرا ? تعالى الله عن السمي والنظير . .
القول في تأويل قوله تعالى : { رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : لم يكن ربك يا محمد ربّ السموات والأرض وما بينهما نسيا ، لأنه لو كان نسيا لم يستقم ذلك ، ولهلك لولا حفظه إياه ، فالربّ مرفوع ردّا على قوله رَبّكَ .
وقوله : فاعْبُدْه يقول : فالزم طاعته ، وذلّ لأمره ونهيه وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ يقول : واصبر نفسك على النفوذ لأمره ونهيه ، والعمل بطاعته ، تفز برضاه عنك ، فإنه الإله الذي لا مثل له ولا عدل ولا شبيه في جوده وكرمه وفضله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا يقول : هل تعلم يا محمد لربك هذا الذي أمرناك بعبادته ، والصبر على طاعته مثلاً في كرمه وجوده ، فتعبده رجاء فضله وطوله دونه ؟ كلا ، ما ذلك بموجود . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا يقول : هل تعلم للربّ مثلاً أو شبيها .
حدثني سعيد بن عثمان التنوخي ، قال : حدثنا إبراهيم بن مهدي ، عن عباد بن عوّام ، عن شعبة ، عن الحسن بن عمارة ، عن رجل ، عن ابن عباس ، في قوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا قال : شبيها .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن مجاهد في هذه الاَية هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا قال : هل تعلم له شبيها ، هل تعلم له مثلاً تبارك وتعالى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا لا سميّ لله ولا عِدل له ، كلّ خلقه يقرّ له ، ويعترف أنه خالقه ، ويعرف ذلك ، ثم يقرأ هذه الاَية : وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّهُ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا قال : يقول : لا شريك له ولا مثل .
وقوله { رب } بدل من قوله { وما كان ربك } ، وقوله { فاعبده واصطبر لعبادته } أمر بحمل تكاليف الشرع وإشعار ما بصعوبتها كالجهاد والحج والصدقات فهي شريعة تحتاج الى اصطبار أعاننا الله عليها بمنه . وقرأ الجمهور «هل تعلم » بإظهار اللام ، وقرأ بن نصر عن أبي عمرو بإدغام اللام في التاء وهي قراءة عيسى والأعمش والحسن وابن محيصن قال أبو علي : سيبويه يجيز إدغام اللام في الطاء والتاء والدال والثاء والضاد والزاي والسين ، وقرأ أبو عمرو «وهل ثوب »{[7999]} بإدغامها في الثاء وإدغامها في التاء أحق لأنها أدخل معها في الفم ومن إدغامها في التاء ما روي من قول مزاحم العقيلي : [ الطويل ]
فذر ذا ولكن هل تعين متيماً . . . على ضوء برق آخر الليل ناصب{[8000]}
وقوله { سمياً } ، قال قوم : وهو ظاهر اللفظ معناه موافقاً في الاسم وهذا يحسن فيه أن يريد بالاسم ما تقدم من قوله { رب السماوات والأرض وما بينهما } أي هل تعلم من يسمى بهذا ويوصف بهذه الصفة ؟ وذلك أن الأمم{[8001]} والفرق لا يسمون بهذا الأسم وثناً ولا شيئاً سوى الله تعالى ، وأما الألوهية والقدرة وغير ذلك فقد يوجه السمي فيها وذلك باشتراك لا بمعنى واحد . وقال ابن عباس وغيره : قوله { سمياً } معناه مثيلاً أو شبيهاً أو نحو ذلك ، وهذا قول حسن ، وكأن السمي بمعنى المسامي والمضاهي فهو من السمو ، وهذا القول يحسن في هذه الآية ولا يحسن فيما تقدم في ذكر يحيى عليه السلام{[8002]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.