سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون
هذه السورة ذات مقطعين اثنين تعالج في كل مقطع منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة :
الأولى حقيقة القيامة ، وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل ، يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار ، والأرض والسماء ، والأنعام والوحوش ، كما يشمل بني الإنسان .
والثانية حقيقة الوحي ، وما يتعلق بها من صفة الملك الذي يحمله ، وصفة النبي الذي يتلقاه ، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه ، ومع المشيئة الكبرى التى فطرتهم ونزلت لهم الوحي .
والإيقاع العام للسورة أشبه بحركة جائحة . تنطلق من عقالها . فتقلب كل شيء ، وتنثر كل شيء ؛ وتهيج الساكن وتروع الآمن ؛ وتذهب بكل مألوف وتبدل كل معهود ؛ وتهز النفس البشرية هزا عنيفا طويلا ، يخلعها من كل ما اعتادت أن تسكن إليه ، وتتشبث به ، فإذا هي في عاصفة الهول المدمر الجارف ريشة لا وزن لها ولا قرار . ولا ملاذ لها ولا ملجأ إلا في حمى الواحد القهار ، الذي له وحده البقاء والدوام ، وعنده وحده القرار والاطمئنان . .
ومن ثم فالسورة بإيقاعها العام وحده تخلع النفس من كل ما تطمئن إليه وتركن ، لتلوذ بكنف الله ، وتأوي إلى حماه ، وتطلب عنده الأمن والطمأنينة والقرار . .
وفي السورة - مع هذا - ثروة ضخمة من المشاهد الرائعة ، سواء في هذا الكون الرائع الذي نراه ، أو في ذلك اليوم الآخر الذي ينقلب فيه الكون بكل ما نعهده فيه من أوضاع . وثروة كذلك من التعبيرات الأنيقة ! المنتقاة لتلوين المشاهد والإيقاعات . وتلتقي هذه وتلك في حيز السورة الضيق ، فتضغط على الحس وتنفذ إليه في قوة وإيحاء .
ولولا أن في التعبير ألفاظا وعبارات لم تعد مألوفة ولا واضحة للقارئ في هذا الزمان ، لآثرت ترك السورة تؤدي بإيقاعها وصورها وظلالها وحقائقها ومشاهدها ، مالا تؤديه أية ترجمة لها في لغة البشر ؛ وتصل بذاتها إلى أوتار القلوب فتهزها من الأعماق .
ولكن لا بد مما ليس منه بد . وقد بعدنا في زماننا هذا عن مألوف لغة القرآن !
إن تكوير الشمس قد يعني برودتها ، وانطفاء شعلتها ، وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد من جوانبها كلها الآن إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء . كما يتبدى هذا من المراصد في وقت الكسوف . واستحالتها من الغازية المنطلقة بتأثير الحرارة الشديدة التي تبلغ 12000 درجة ، والتي تحول جميع المواد التي تتكون منها الشمس إلى غازات منطلقة ملتهبة . . استحالتها من هذه الحالة إلى حالة تجمد كقشرة الأرض ، وتكور لا ألسنة له ولا امتداد !
قد يكون هذا ، وقد يكون غيره . . أما كيف يقع والعوامل التي تسبب وقوعه فعلم ذلك عند الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ * وَإِذَا النّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطّلَتْ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ فقال بعضهم : معنى ذلك : إذا الشمس ذهب ضوؤُها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن الحريث ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : ثني أبيّ بن كعب ، قال : ستّ آيات قبل يوم القيامة : بينا الناس في أسواقهم ، إذ ذهب ضوء الشمس ، فبينما هم كذلك ، إذ تناثرت النجوم ، فبينما هم كذلك ، إذ وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحرّكت واضطربت واحترقت ، وفزَعت الجنّ إلى الإنس ، والإنس إلى الجنّ ، واختلطت الدوابّ والطير والوحش ، وماجوا بعضهم في بعض وَإذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ قال : اختلطت وَإذَا الْعِشارُ عُطّلَتْ قال : أهملها أهلها وَإذَا الْبِحارُ سُجّرَتْ قال : قالت الجنّ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر قال : فانطلقوا إلى البحار ، فإذا هي نار تأجّج قال : فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة ، إلى الأرض السابعة السفلى ، وإلى السماء السابعة العليا قال : فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ يقول : أظلمت .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ يعني : ذهبت .
حدثني محمد بن عُمارة ، حدثني عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ قال : اضمحلت وذهبت .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، في قوله : إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ قال : ذهب ضوءُها فلا ضوء لها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ قال : غُوّرت ، وهي بالفارسية ، كور تكور .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ أما تكوير الشمس : فذهابها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ قال : كوّرت كورا بالفارسية .
وقال آخرون : معنى ذلك : رُمي بها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن عليّ ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ قال : نُكّست .
حدثني محمد بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح مثله .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا بدل بن المحبر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت إسماعيل ، سمع أبا صالح في قوله إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ قال : أُلقيت .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي يَعْلَى ، عن ربيع بن خيثم إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ قال : رُمِي بها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي يعلى ، عن الربيع بن خيثم ، مثله .
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن يقال كُوّرَتْ كما قال الله جلّ ثناؤه والتكوير في كلام العرب : جمع بعض الشيء إلى بعض ، وذلك كتكوير العمامة ، وهو لفها على الرأس ، وكتكوير الكارة ، وهي جمع الثياب بعضها إلى بعض ، ولفها ، وكذلك قوله : إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ إنما معناه : جمع بعضها إلى بعض ، ثم لفت فرمي بها ، وإذا فعل ذلك بها ذهب ضوءُها . فعلى التأويل الذي الذي تأوّلناه وبيّناه لكلا القولين اللذين ذكرت عن أهل التأويل ، وجه صحيح ، وذلك أنها إذا كُوّرت ورُمي بها ، ذهب ضوءُها .
وهي مكية بإجماع من المتأولين{[1]} .
هذه كلها أوصاف يوم القيامة ، و «تكوير الشمس » : هو أن تدار ويذهب بها إلى حيث شاء الله كما يدار كور العمامة{[11641]} ، وعبر المفسرون عن ذلك بعبارات ، فمنهم من قال : ذهب نورها قاله قتادة ، ومنهم من قال : رمي بها ، قاله الربيع بن خيثم وغير ذلك مما هو أشياء توابع لتكويرها .