ثم ننتقل - مع السياق - إلى الصورة الثالثة . أو إلى النموذج الثالث
إنها ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها . وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها . ولكنها تتلوى في الحس . وتروغ من البصر ، وتخفى وتبين . . إنها صورة المنافقين :
( ومن الناس من يقول : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا ، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون . وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض ، قالوا : إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون . وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس ، قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا . وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم ، إنما نحن مستهزئون . الله يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) . .
لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة ؛ ولكننا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان نجدها نموذجا مكرورا في أجيال البشرية جميعا . نجد هذا النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح ، أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح . وهم في الوقت ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير الناس ، وعلى تصورهم للأمور ! ومن ثم نميل إلى مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من مناسبتها التاريخية ، موجهة إلى هذا الفريق من المنافقين في كل جيل . وإلى صميم النفس الإنسانية الثابت في كل جيل .
إنهم يدعون الإيمان بالله واليوم الآخر . وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين . إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين .
{ وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }
قال أبو جعفر : أما قوله : وَمِنَ النّاسِ فإن في الناس وجهين : أحدهما أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه ، وإنما واحده إنسان وواحدته إنسانة . والوجه الاَخر : أن يكون أصله «أُناس » أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها ، ثم دخلتها الألف واللام المعرّفتان ، فأدغمت اللام التي دخلت مع الألف فيها للتعريف في النون ، كما قيل في : لكنّ هُوَ اللّهُ رَبي على ما قد بينا في اسم الله الذي هو الله .
وقد زعم بعضهم أن الناس لغة غير أناس ، وأنه سمع العرب تصغره نُوَيْس من الناس ، وأن الأصل لو كان أناس لقيل في التصغير : أُنَيْس ، فردّ إلى أصله .
وأجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق ، وأن هذه الصفة صفتهم . ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنينَ يعني المنافقين من الأوس والخزرج ، ومن كان على أمرهم . وقد سُمّي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعب ، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم .
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُم بِمُؤْمِنِينَ حتى بلغ : فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كَانُوا مُهْتَدِينَ قال : هذه في المنافقين .
حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : هذه الآية إلى ثلاث عشرة في نعت المنافقين .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد مثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن إسماعيل السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، وعن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وَمِنَ الناسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِمؤْمِنِينَ هم المنافقون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخِرِ إلى : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرضا وَلَهُمُ عَذَابٌ ألِيمٌ قال : هؤلاء أهل النفاق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ قال : هذا المنافق يخالف قولُه فعلَه وسرّه علانيَته ومدخلُه مخرجَه ومشهدُه مغيَبه .
وتأويل ذلك أن الله جل ثناؤه لمّا جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمره في دار هجرته واستقر بها قرارُه وأظهر الله بها كلمته ، وفشا في دور أهلها الإسلام ، وقهر بها المسلمون من فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان ، وذلّ بها من فيها من أهل الكتاب أظهر أحبار يهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن وأبدوا له العداوة والشنآن حسدا وبغيا إلا نفرا منهم ، هداهم الله للإسلام فأسلموا ، كما قال الله جل ثناؤه : وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَردّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمانِكُمْ كُفّارا حَسَدا منْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ الحَقّ وطابقهم سرّا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبغيهم الغوائل قومٌ من أراهط الأنصار الذي آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه وكانوا قد عتوا في شركهم وجاهليتهم قد سُمّوا لنا بأسمائهم ، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم . وظاهروهم على ذلك في خفاء غير جهار حذار القتل على أنفسهم والسباء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وركونا إلى اليهود ، لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام . فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه ، قالوا لهم حذارا على أنفسهم : إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبعث ، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحق ليدرءوا عن أنفسهم حكم الله فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشرك لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم ، وإذا لقوا إخوانهم من اليهود وأهل الشرك والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به فخلوا بهم ، قالوا : إنّا مَعَكُمْ إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ فإياهم عنى جل ذكره بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يعني بقوله تعالى خبرا عنهم «آمّنا بالله » : صدقنا بالله . وقد دللنا على أن معنى التصديق فيما مضى قبل من كتابنا هذا . وقوله : وَباليَوْمِ الاَخرِ يعني بالبعث يوم القيامة . وإنما سُمِي يوم القيامة اليوم الاَخر : لأنه آخر يوم ، لا يوم بعده سواه .
فإن قال قائل : وكيف لا يكون بعده يوم ، ولا انقطاع للاَخرة ، ولا فناء ، ولا زوال ؟ .
قيل : إن اليوم عند العرب إنما سمي يوما بليلته التي قبله ، فإذا لم يتقدم النهار ليل لم يسمّ يوما ، فيوم القيامة يوم لا ليل له بعده سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة ، فذلك اليوم هو آخر الأيام ، ولذلك سماه الله جل ثناؤه : اليَوْم الاَخر ، ونعته بالعقيم ، ووصفه بأنه يوم عقيم لأنه لا ليل بعده .
وأما تأويل قوله : : وَما هُمْ بِمُؤْمنينَ ونفيه عنهم جل ذكره اسم الإيمان ، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم آمنّا بالله وباليوم الاَخر فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث ، وإعلام منه نبيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم ، وضد ما في عزائم نفوسهم . وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية من أن الإيمان هو التصديق بالقول دون سائر المعاني غيره . وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق أنهم بألسنتهم : آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخرِ ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين ، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك . وقوله : وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يعني بمصدقين فيما يزعمون أنهم به مصدقون .