ثم يمضي السياق خطوة في استعراض أحداث المعركة ، والتعقيب عليها ؛ فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور ، واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم - وهم المسلمون - مما يشي بسذاجة تصورهم للأمر يومذاك قبل أن تطحنهم التجربة ، وتصوغهم صياغة واقعية ، تتعامل مع واقع الأمر ، وطبيعة السنن ، وجدية هذا الواقع الذي لا يحابي أحدا لا يأخذ بالسنن ، ولا يستقيم مع الجد الصارم في طبيعة الكون والحياة والعقيدة ! ومن ثم يقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة ؛ وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم ، وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم ! . . ولكنه لا يتركهم عند هذه النقطة - التي وإن كانت حقيقة إلا أنها ليست نهاية الحقيقة - بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج ؛ وبمشيئة الله الطليقة من وراء السنن والقوانين ؛ فيكشف لهم عن حكمة ما وقع ، وعن تدبير الله فيه ليحقق من ورائه الخير لهم ، وللدعوة التي يجاهدون في سبيلها ؛ وليعدهم بهذه التجربة لما بعدها ، وليمحص قلوبهم ، ويميز صفوفهم ، من المنافقين الذين كشفتهم الأحداث . فالأمر في النهاية مرجعه إلى قدر الله وتدبيره . . وبذلك تتكامل الحقيقة في تصورهم ومشاعرهم من وراء هذا البيان القرآني الدقيق العميق :
( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم : أنى هذا ؟ قل : هو من عند أنفسكم ، إن الله على كل شيء قدير . وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ، وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ، وقيل لهم : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، قالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ! هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، والله أعلم بما يكتمون . الذين قالوا لإخوانهم - وقعدوا - : لو أطاعونا ما قتلوا . قل : فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) . .
لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه ، حملة رايته ، وأصحاب عقيدته . . ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم ؛ وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم ؛ وباستكمال العدة التي في طاقتهم ، وببذل الجهد الذي في وسعهم . . فهذه سنة الله . وسنة الله لا تحابي أحدا . . فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور ، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير . فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وأبطال الناموس . فإنما هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن ، ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس . .
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدرا كذلك ، ولا يضيع هباء . فإن استسلامهم لله ، وحملهم لرايته ، وعزمهم على طاعته ، والتزام منهجه . . من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيرا وبركة في النهاية - بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح - وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروسا وتجارب ، تزيد في نقاء العقيدة ، وتمحيص القلوب ، وتطهير الصفوف ؛ وتؤهل للنصر الموعود ؛ وتنتهي بالخير والبركة . . ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته وعنايته . بل تمدهم بزاد الطريق . مهما يمسهم من البرح والألم والضيق في أثناء الطريق .
وبهذا الوضوح والصرامة معا يأخذ الله الجماعة المسلمة ؛ وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع ؛ ويكشف عن السبب القريب من أفعالها ؛ كما يكشف عن الحكمة البعيدة من قدره - سبحانه - يواجه المنافقين بحقيقة الموت ، التي لا يعصم منها حذر ولا قعود :
( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم . إن الله على كل شيء قدير ) . .
والمسلمون الذين أصيبوا في أحد بما أصيبوا ؛ والذين فقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير ؛ والذين عز عليهم أن يصيبهم ما أصابهم ، وهم المسلمون ، وهم يجاهدون في سبيل الله ، وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله . . المسلمون الذين أصيبوا بهذه المصيبة ، كان قد سبق لهم أن أصابوا مثليها : أصابوا مثلها يوم بدر فقتلوا سبعين من صناديد قريش . وأصابوا مثلها يوم أحد في مطلع المعركة ، حينما كانوا مستقيمين على أمر الله وأمر رسوله [ ص ] وقبل أن يضعفوا أمام إغراء الغنائم . وقبل أن تهجس في أنفسهم الخواطر التي لا ينبغي أن تهجس في ضمائر المؤمنين !
ويذكرهم الله هذا كله ، وهو يرد على دهشتهم المتسائلة ، فيرجع ما حدث لهم إلى سببه المباشر القريب :
أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر . وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله [ ص ] وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس . وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة . . فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم ، وتقولون : كيف هذا ؟ هو من عند أنفسكم ، بانطباق سنة الله عليكم ، حين عرضتم أنفسكم لها . فالإنسان حين يعرض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه ، مسلما كان أو مشركا ، ولا تنخرق محاباة له ، فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداء !
( إن الله على كل شيء قدير ) . .
ومن مقتضى قدرته أن تنفذ سنته ، وأن يحكم ناموسه ، وأن تمضي الأمور وفق حكمه وإرادته ، وألا تتعطل سننه التي أقام عليها الكون والحياة والأحداث .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.