اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (165)

الهمزة للإنكار ، وجعلها ابنُ عطية للتقرير ، والواو عاطفة ، والنية بها التقديم على الهمزة .

وقال الزمخشري : و " لما " نصب ب " قلتم " و " أصابتكم " في محل الجر ، بإضافة " لما " إليه ، وتقديره : أقلتم حين أصابتكم . و " أنى هذا " نصب ؛ لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع .

فإن قلتَ : علامَ عطفت الواو هذه الجملة ؟ قلتُ : على ما مضى من قصة أحُد - من قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ } - ويجوز أن تكونَ معطوفة على محذوف ، [ كأنه قيل ]{[6174]} : أفعلتم كذا ، وقلتم حينئذ كذا ؟ انتهى .

أمّا جعله " لما " بمعنى " حين " - أي ظرفاً - فهو مذهب الفارسيِّ وقد تقدم تقرير المذهبين وأما قوله : " عطف على قصة أحد " فهذا غير مذهبه ، لأن الجاري من مذهبه إنما هو تقديرُ جملة ، يعطف ما بعد الواو عليها - أو الفاء ، أو " ثم " - كما قرره هو في الوجه الثاني .

و " أنى هذا " " أنى " بمعنى من أين - كما تقدم في قوله : { أَنَّى لَكِ هَذَا }

[ آل عمران : 37 ] - ويدل عليه قوله : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } وقوله : { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } قاله الزمخشري .

ورد عيله أبو حيّان بأن الظرف إذا وقع خبراً للمبتدأ لا يقدَّر داخلاً عليه حرف جر ، غير " في " . أما أن يقدر داخلاً عليه " من " فلا ؛ لأنه إنما انتصب على إسقاط " في " ولذلك إذا أضمِر الظرف تعدى إليه الفعل بواسطة " في " إلا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به ، فتقدير الزمخشريِّ غيرُ سائغٍ ، واستدلاله بقوله تعالى : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } وقوله : { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها .

واختار أبو حيان أن " أنى " بمعنى " كيف " قال : و " أنى " سؤالٌ عن الحال - هنا - ولا يناسب أن يكون - هنا - بمعنى " أين " أو " متى " لأن الاستفهام لم يقع عن المكان ، ولا عن الزمان ، إنما وقع عن الحال التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجُّب - وجاء الجواب من حيث المعنى لا من حيثُ اللفظ - في قوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } - والسؤال ب " أنى " سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمرِ ، والجواب بقوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } يتضمن تعيين الكيفية ؛ لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفيةُ من حيثُ المعنى لو قيل - على سبيل التعجُّبِ والإنكارِ - : كيف لا يحج زيد الصَّالحُ ؟ وأجيب ذلك بأن يقال : لعدم استطاعته ، لحصل الجوابُ ، وانتظم من المعنى أنه لا يحج وهو غير مستطيعٍ .

قال شهابُ الدينِ : " أما قوله : لا يقدِّر الظرف بحرف جَرّ غير " في " فالزمخشريُّ لم يقدر " في " مع " أن " حتى يلزمه ما قال ، إنما جعل " أنى " بمنزلة " من أين " في المعنى . وأما عدوله عن الجواب المطابق لفظاً فالعكسُ أولى " .

قوله : { قَدْ أَصَبْتُمْ } في محل رفع ؛ صفة ل " مصيبة " . و " قلتم " - على مذهب سيبوبه - جواب " لما " وعلى مذهب الفارسيّ ناصب لها على حسب ما تقدم من مذهبيهما .

قوله : { قُلْ هُوَ } هذا الضمير راجع على " المصيبة " من حيثُ المعنى ، ويجوز أن يكونَ حذفُ مضافٍ مراعى - أي : سببها - وكذلك الإشارة لقوله : { أَنَّى هَذَا } لأن المراد المصيبة .

فصل

وجه النظم : أنه - تعالى - لما أخبر عن المنافقين بأنهم نسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الغلول حكى عنهم شُبْهَةً أخرى في هذه الآية ، وهي قولهم : لو كان رسولاً من عند الله لما انهزم عسكرهُ من الكفار في يوم أحُدٍ ، وهو المرادُ من قولهم : أنى هذا ؟

وأجاب الله تعالى عنه بقوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي : هذا الانهزامُ إنما حصل بشؤم عصيانكم .

فصل

ومعنى : { قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } أن المشركين قتلوا من المسلمين - يوم أحُدٍ - سبعين ، وقتل المسلمون منهم - يوم بدر - سبعين ، وأسروا سبعينَ ، والأسيرُ في حكم القتيلِ ، لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد . { قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا } : من أين لنا هذا القتلُ والهزيمة ، ونحن مسلمونَ ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ؟ { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ }

روى عبيدة السَّلْمَاني عن علي قال : " جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فقال : يا مُحَمَّدُ ، إن الله قد كَرِهَ ما صنع قومك - من أخذهم الفداء من الأسارى - وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى ، فتضرب أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عِدَّتهم ، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للنّاسِ ، فقالوا : يا رسولَ الله ، عشائرنا ، وإخواننا ، لا ، بل نأخذ منهم الفداء ، فتتقوّى به على قتال العدو ، ونرضى أن يستشهد منا عِدَّتهم ، فقُتِل منهم - يوم أحدٍ - سبعونَ ، عدد أسارى أهل بدر{[6175]} " ، فهذا معنى قوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي : بأخذ الفداء ، واختياركم القتلَ .

وقيل : إنما وقعتم في هذه المصيبة بشُؤم معصيتكم في الأمور المتقدم ذِكرها .

فصل

استدل المعتزلةُ بقوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } على أن أفعال العبد غير مخلوقةٍ لله تعالى من وجوهٍ :

أحدها : أنه لو كان ذلك حاصلاً بخَلْق الله تعالى - ولا تأثير للعبد فيه - كان قوله : { هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } كذباً .

ثانيها : أنهم تعجبوا كيف سلط الله الكافرَ على المؤمن ؟ فأزال الله ذلك التعجب بقوله : إنما وقعتم في هذا المكروه بشُؤم فعلكم ، فلو كان خلقاً لله لم يصح الجوابُ .

ثالثها : أن القوم قالوا : { أَنَّى هَذَا } أي : من أينَ هَذَا ؟ وهذا طلبٌ لسبب الحدوثِ ، فلو لم يكن المحدث لها هو العبدُ لم يكن الجوابُ مطابقاً للسؤال .

وأجيبوا عن الأوليْن بالمعارضة بالآيات الدالة على كون أفعال العبدِ بإيجاد الله تعالى ، وعن الثالث بأنه لو كانوا هم الذين أوجدوا الفعلَ لم يحسن منهم السؤالُ عن سببه .

ثم قال : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : قادر على نصْركم - لو صبرتم وثبتُّم - كما قدر على التخلية - إذ خالفتم وعصيتم - وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، قالوا : لأن فعل العبد شيء ، فيكون الله قادراً على إيجاده ، فلو أوجده العبد امتنع كونه - تعالى - قادراً على إيجاده ؛ لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده ، لأن إيجادَ الموجودِ مُحَالٌ ، والمُفضِي إلى المُحَالِ مُحَالٌ .


[6174]:في أ: تقديره.
[6175]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/376) والترمذي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/166) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن.