البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (165)

{ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا } الهمزة للاستفهام الذي معناه الإنكار .

وقال ابن عطية : دخلت عليها ألف التقرير ، على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال .

وقال الزمخشري : ولمّا نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجرّ بإضافة لما إليه ، وتقديره : أقلتم حين أصابتكم ، وأنَّى هذا نصب لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع .

( فإن قلت ) : على مَ عطفت الواو هذه الجملة ؟ ( قلت ) : على ما مضى من قصة أحد من قوله : { ولقد صدقكم الله وعده } ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف ، فكأنه قال : أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا ؟انتهى .

أمّا العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله : { ولقد صدقكم الله وعده } .

ففيه بعدٌ ، وبعيد أن يقع مثله في القرآن .

وأمّا العطف على محذوف فهو جار على ما تقرر في غير موضع من مذهبه ، وقد رددناه عليه .

وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا : وأصلها التقديم ، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها .

وأمّا قوله : ولما نصب إلى آخره وتقديره : وقلتم حينئذ كذا ، فجعل لمّا بمعنى حين فهذا ليس مذهب سيبويه ، وإنما هو مذهب أبي علي الفارسي .

زعم أنّ لمّا ظرف زمان بمعنى حين ، والجملة بعدها في موضع جرّ بها ، فجعلها من الظروف التي تجب إضافتها إلى الجمل ، وجعلها معمولة للفعل الواقع جواباً لها في نحو : لما جاء زيد عمرو ، فلما في موضع نصب بجاء من قولك : جاء عمرو .

وأمّا مذهب سيبويه فلما حرف لا ظرف ، وهو حرف وجوب لوجوب ، ومذهب سيبويه هو الصحيح .

وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى : بالتكميل .

والمصيبة : هي ما نزل بالمؤمنين يوم أحد من قتل سبعين منهم ، وكفهم عن الثبات للقتال .

وإسنادُ الإصابة إلى المصيبة هو مجاز ، كإسناد الإرادة إلى الجدار ، والمثلان اللذان أصابوهما .

قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والربيع ، وجماعة : قتلهم يوم بدر سبعين ، وأسرهم سبعين ، فالمثلية وقعت في العدد من إصابة الرجال .

وقال الزجاج : قتلهم يوم بدر سبعين وقتلهم يوم أحد اثنين وعشرين ، فهو قتل بقتل ، ولا مدخل للأسرى في الآية ، لأنهم فدوا فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين ، وقيل : المثلية في الانهزام .

هزم المؤمنون الكفار يوم بدر ، وهزموهم أولاً يوم أحد ، وهزمهم المشركون في آخر يوم أحد .

وملخص ذلك : هل المثلية في الإصابة من قتل وأسر ، أو من قتل ، أو من هزيمة ؟ ثلاثة أقوال ، والأظهر الأول .

لأن قوله : قد أصبتم مثليها هو على طريق التفضل منه تعالى على المؤمنين بإدالتهم على الكفار ، والتسلية لهم على ما أصابهم ، فيكون ذلك بالأبلغ في التسلية .

وتنبيههم على أنهم قتلوا منهم سبعين ، وأسروا سبعين أبلغ في المنة وفي التسلية .

وأدعى إلى أن يذكروا نعم الله عليهم السابقة ، وأن يتناسوا ما جرى عليهم يوم أحد .

وأنى هذا : جملة من مبتدأ وخبر ، وهي في موضع نصب على أنها معمولة لقوله : قلتم .

قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار لما أصابهم ، والمعنى : كيف أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء الله ، وقد وعدنا بالنصر وإمداد الملائكة ؟ ! فاستفهموا على سبيل التعجب عن ذلك .

وأنى سؤال عن الحال هنا ، ولا يناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى ، لأنّ الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا ، إنما الاستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجب .

وقال الزمخشري : أنى هذا من أين هذا ، كقوله : { أنى لك هذا } لقوله : { من عند أنفسكم } وقوله : { من عند الله } انتهى كلامه .

والظرف إذا وقع خبر للمبتدأ ألا يقدر داخلاً عليه حرف جر غير في ، أما أنْ يقدَّر داخلاً عليه مِنْ فلا ، لأنه إنما انتصب على إسقاط في .

ولك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة في إلاّ أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به ، فتقدير الزمخشري : أنى هذا ، من أين هذا تقدير غير سائغ ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله : من عند أنفسكم ، وقوله : من عند الله ، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها .

وأمّا على ما قررناه ، فإنّ الجواب جاء على مراعاة المعنى ، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ .

وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقاً له في اللفظ ، ومراعى فيه المعنى لا اللفظ .

والسؤال بأنى سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر ، والجواب بقوله : من عند أنفسكم يتضمن تعيين الكيفية ، لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى .

لو قيل على سبيل التعجب والإنكار : كيف لا يحج زيد الصالح ، وأجيب ذلك بأن يقال : بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى ، أنه لا يحج وهو غير مستطيع .

{ قل هو من عند أنفسكم } الإضمار في هو راجع إلى المصيبة على المعنى ، لا على اللفظ .

وتقدم تفسير المصيبة في تفسير مقابل المثلين : أهو القتل المقابل للقتل والأسر ، أو المقابل للقتل فقط ؟ أو الانهزام المقابل للانهزامين ؟ والمعنى : أن سبب هذه المصيبة صدر من عند أنفسكم .

فقيل : هو الفداء الذي آثروه على القتل يوم بدر من غير إذن الله تعالى ، قال معناه : عمر بن الخطاب ، وعليّ ، والحسن ، وروى عليّ في ذلك : أنّه لما فرغت هزيمة المشركين يوم بدر جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا الأسرى فتضرب أعناقهم ، أو يأخذوا الفداء على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسرى ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، فذكر ذلك لهم فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وأخواننا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ، ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره » .

فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً .

وقال الجمهور : هو مخالفة الرسول في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك الكفار بشر مجلس ، فخالفوا وخرجوا حتى جرت القصة .

وقالت طائفة منهم ابن عباس ، ومقاتل : هو عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين .

وقد لخص الزمخشري هذه الأقوال الثلاثة أحسن تلخيص .

فقال : المعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة ، أو لتخليتكم المركز .

وعن عليّ : لأخذكم الفداء من أساري بدر قبل أن يؤذَن لكم انتهى .

ولم يعين الله تعالى السبب ما هو لطفاً بالمؤمنين في خطابه تعالى لهم .

والظاهر في قوله : { أنَّى هذا } هو من سؤال المؤمنين على سبيل التعجب .

وذكر الرازي أن الله لما حكي عن المنافقين طعنهم في الرسول بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة ، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم : لو كان رسولاً من عند الله لما انهزم عسكره يوم أحد ، وهو المراد من قولهم : أنَّى هذا .

فأجاب عنه بقوله : قل هو من عند أنفسكم ، أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم انتهى كلامه .

ودل على أن قوله : أنى هذا من كلام المنافقين .

وقال الماتريدي أيضاً : إنّه من كلام المنافقين .

والظاهر ما قلناه أنه من كلام المؤمنين ، وهم المخاطبون بقوله : { أو لما أصابتكم مصيبة } لأن المنافقين لم تصبهم مصيبة ، لأنهم رجعوا مع عبد الله بن أبي ولم يحضروا القتال ، إلا أن تجوز في قوله : أصابتكم مصيبة بمعنى أصابت أقرباءكم وأخوانكم ، فهو يمكن على بعد .

{ إن الله على كل شيء قدير } أي قادر على النصر ، وعلى منعه ، وعلى أن يصيب بكم تارة ، ويصيب منكم أخرى .

ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم ، لا لضعف في قدرة الله ، لأن من هو قادر على كل شيء هو قادر على دفاعهم على كل حال .

/خ170