الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (165)

قوله تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ } : الهمزةُ للإِنكار ، وجَعَلَها ابن عطية للتقرير ، والواوُ عاطفةٌ ، والنيةُ بها التقديمُ على الهمزةَ على ما تقرر . وقال الزمخشري : " و " " لَمَّا " نصبٌ بقلتم ، و " أصابَتْكم " في محل الجر بإضافة " لَمَّا " إليه ، وتقديره ، " قلتم حين أصابتكم " و " أنَّى " هذا نُصِب لأنه مقولٌ والهمزةُ للتقريعِ والتقريرِ . فإنْ قلت : علامَ عَطَفَتِ الواوُ هذه الجملةَ ؟ قلت : على ما مضى من قصةِ أُحُد من وقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ } ، ويجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على محذوفٍ تقديرُه : أفعلتم كذا وقلتم حينئذٍ كذا " انتهى .

أمَّا جَعْلُه " لَمَّا " بمعنى " حين " أي ظرفاً فهو مذهبُ الفارسي ، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين ، وأمَّا قولُه : " عَطْفٌ على قصةِ أُحُد " ؛ فهذا غيرُ مذهبِه ؛ لأنَّ الجاريَ من مذهبه إنما هو تقديرُ جملةٍ يُعْطَفُ ما بعد الواوِ عليها أو الفاءِ أو ثم كما قَرَّره هو في الوجه الثاني .

و " أنى هذا " أنَّى : بمعنى " مِنْ أين " كما تقدَّم في قولِه { أَنَّى لَكِ هَذَا } [ آل عمران : 37 ] . ويَدُلُّ عليه قولُه : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } و { مِنْ عِندِ اللَّهِ } قاله الزمخشري . ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الظرفَ إذا وقَعَ خبراً لا يُقَدَّر داخلاً عليه حرفُ جر غيرُ " في " ، " أمَّا أَنْ يُقَدَّرَ دَاخلاً عليه " مِنْ " فلا ، لأنه إنما انتصبَ على إسقاطِ " في " ولذلك إذا أُضْمِر الظرفُ تعدَّى إليه [ الفعلُ ] ب " في " إلاَّ أَنْ يُتََّسَعَ فيه . قال : " فتقديرُه غيرُ سائغٍ واستدلاله بقولِه : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } { مِنْ عِندِ اللَّهِ } وقوفٌ مع مطابقةِ السؤالِ للجواب في اللفظِ وذُهولٌ عن هذه القاعدةِ " . واختار الشيخُ أنَّ " أَنَّى " بمعنى " كيف " قال : " وأنَّى سؤالٌ عن الحالِ هنا ، ولا تناسِبُ أَنْ تكونَ بمعنى " أين " أو " متى " ؛ لأنَّ الاستفهامَ لم يَقَعْ عن مكانٍ ولا زمانٍ هنا ، إنما وقع عن الحالِ التي اقتضَتْ لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجُّبِ ، وجاءَ الجوابُ من حيثُ المعنى لا من حيث اللفظُ في قولِه : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } . قال : " والسؤالُ " ب " أنَّى " سؤالٌ عن تعيين كيفيةِ حصولِ هذا الأمرِ ، والجوابُ بقولِه : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } يضمَّن تعيين الكيفية ، لأنه بتعيين السببِ تتعيَّن الكيفيةُ مِنْ حيث المعنى ، لو قيل على سبيلِ التعجبِ : كيف لا يَحُجُّ زيدٌ الصالحُ ! ! فقيل في جوابه : " لعدم استطاعته " لحصل الجوابُ وانتظم من المعنى أنه لا يَحُجُّ وهو غيرُ مستطيعٍ " انتهى .

أمَّا قولُه : " لا يُقَدَّر الظرفُ بحرفِ جرٍ غير " في " فالزمخشري لم يُقَدِّر " في " مع " أنَّى " حتى يلزَمَه ما قال ، إنما جَعَل " أنَّى " بمنزلةِ " من أين " في المعنى . وأمَّا عدوله عن الجوابِ المطابقِ لفظاً فالعكسُ أولى .

وقوله : { قَدْ أَصَبْتُمْ } في محلِّ رفعٍ صفةً ل " مصيبة " . و " قلتم " على مذهبِ سيبويه جوابُ ل " لَمَّا " ، وعلى مذهبِ الفارسي ناصبٌ لها ، على حَسَبِ ما تقدَّم من مذهبيهما . والضميرُ في قوله " قل " هو راجع على المصيبة من حيث المعنى . ويجوز/ أن يكون على حذف مضاف مُرَاعَىً أي : سببُها ، وكذلك الإِشارةُ بقولِه : " أنّى هذا " لأنَّ المرادَ المصيبةُ .