47- يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت بها عليكم ، من إخراجكم من ظلم فرعون وهدايتكم وتمكينكم في الأرض بعد أن كنتم مستضعفين فيها ، واشكروا واهبها بطاعتكم له ، واذكروا أنني أعطيت آباءكم الذين انحدرتم منهم ما لم أعطه أحداً من معاصريكم ، والخطاب لجنس اليهود وموجه كذلك للمعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم .
أعيد خطاب بني إسرائيل بطريق النداء مماثلاً لما وقع في خطابهم الأول لقصد التكرير للاهتمام بهذا الخطاب وما يترتب عليه ، فإن الخطاب الأول قصد منه تذكيرهم بنعم الله تعالى ليكون ذلك التذكير داعية لامتثال ما يرد إليهم من الله من أمر ونهي على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم غير أنه لما كان الغرض المقصود من ذلك هو الامتثال كان حق البلاغة أن يفضي البليغ إلى المقصود ولا يطيل في المقدمة ، وإنما يلم بها إلماماً ويشير إليها إجمالاً ، تنبيهاً بالمبادرة إلى المقصود على شدة الاهتمام به ولم يزل الخطباء والبلغاء يعدون مثل ذلك من نباهة الخطيب ويذكرونه في مناقب وزير الأندلس محمد بن الخطيب السلماني إذ قال عند سفارته عن ملك غرناطة إلى ملك المغرب ابن عنان أبياته المشهورة التي ارتجلها عند الدخول عليه طالعها :
خليفةَ الله ساعدَ القـــدرُ *** عُلاك مالاح في الدجا قمر
والناس طرا بأرض أندلس *** لولاك ما وطنوا ولا عمروا
وقد أهمتهمُ نفوسُهــــم *** فوجهوني إليك وانتظـروا
فقال له أبو عنان : ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم وأذن له في الجلوس فسلم عليه . قال القاضي أبو القاسم الشريف{[121]} وكان من جملة الوفد لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا .
فكان الإجمال في المقدمة قضاء لحق صدارتها بالتقديم وكان الإفضاء إلى المقصود قضاء لحقه في العناية ، والرجوع إلى تفصيل النعم قضاء لحقها من التعداد فإن ذكر النعم تمجيد للمنعم وتكريم للمنعم عليه وعظة له ولمن يبلغهم خبر ذلك تبعث على الشكر . فللتكرير هنا نكتة جمع الكلامين بعد تفريقهما ونكتة التعداد لما فيه إجمال معنى النعمة .
والنعمة هنا مراد بها جميع النعم لأنّه جنس مضاف فله حكم الجمع كما في قوله تعالى : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم } [ البقرة : 40 ] .
وقوله تعالى : { وأني فضلتكم على العالمين } عطف على { نعمتي } أي واذكروا تفضيلي إياكم على العالمين وهذا التفضيل نعمة خاصة فعطفه على ( نعمتي ) عطف خاص على عام وهو مبدأ لتفصيل النعم وتعدادها وربما كان تعداد النعم مغنياً عن الأمر بالطاعة والامتثال لأن من طبع النفوس الكريمة امتثال أمر المنعم لأن النعمة تورث المحبة . وقال منصور الوراق :
تعصي الإله وأنت تُظهر حبَّه *** هذا لَعمري في القياس بديعُ
لو كان حُبّك صادقاً لأطعتـه *** إن المحِب لمن يُحب مُطيع
وهذا التذكير مقصود به الحث على الاتسام بما يناسب تلك النعمة ويستبقي ذلك الفضل .
ومعنى العالمين تقدم عنه قوله : { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 2 ] والمراد به هنا صنف من المخلوقات ولا شك أن المخلوقات تصنف أصنافاً متنوعة على حسب تصنيف المتكلم أو السامع ، فالعالمون في مقام ذكر الخلق هم أصناف المخلوقات كالإنس والدواب والطير والحوت ، والعالمون في مقام ذكر فضائل الخلق أو الأمم أو القبائل يراد بها أصناف تلك المتحدث عنها فلا جرم أن يكون المراد من العالمين هنا هم الأمم الإنسانية فيعم جميع الأمم لأنه جمع معرف باللام لكن عمومه هنا عرفي يختص بأمم زمانهم كما يختص نحو : جمع الأمير الصاغة بصاغة مكانه أي بلده ويختص أيضاً بالأمم المعروفة كما يختص جمع الأمير الصاغة بالصاغة المتخذين الصياغة صناعة دون كل من يعرف الصياغة وذلك كقولك : هو أشهر العلماء وأنجب التلامذة ، فالآية تشير إلى تفضيل بني إسرائيل المخاطبين أو سلفهم على أمم عصرهم لا على بعض الجماعات الذين كانوا على دين كامل مثل نصارى نجران ، فلا علاقة له بمسألة تفضيل الأنبياء على الملائكة بحال ولا التفات إلى ما يشذ في كل أمة أو قبيلة من الأفراد فلا يلزم تفضيل كل فرد من بني إسرائيل على أفراد من الأمم بلغوا مرتبة صالحة أو نبوءة لأن التفضيل في مثل هذا يراد به تفضيل المجموع ، كما تقول قريش أفضل من طيء وإن كان في طيء حاتم الجواد .
فكذلك تفضيل بني إسرائيل على جميع أمم عصرهم وفي تلك الأمم أمم عظيمة كالعرب والفرس والروم والهند والصين وفيهم العلماء والحكماء ودعاة الإصلاح والأنبياء لأنه تفضيل المجموع على المجموع في جميع العصور ، ومعنى هذا التفضيل أن الله قد جمع لهم من المحامد التي تتصف بها القبائل والأمم ما لم يجمعه لغيرهم وهي شرف النسب وكمال الخلق وسلامة العقيدة وسعة الشريعة والحرية والشجاعة ، وعناية الله تعالى بهم في سائر أحوالهم ، وقد أشارت إلى هذا آية : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليهم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } [ آل عمران : 20 ] وهذه الأوصاف ثبتت لأسلافهم في وقت اجتماعها وقد شاع أن الفضائل تعود على الخلَف بحسن السمعة وإن كان المخاطبون يومئذ لم يكونوا بحال التفضيل على العالمين ولكنهم ذكروا بما كانوا عليه فإن فضائل الأمم لا يلاحظ فيها الأفراد ولا العصور . ووجه زيادة الوصف بقوله : { التي أنعمت عليكم } مر في أختها الأولى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا بني إسرائيل}، يعني اليهود بالمدينة.
{اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم}، يعني أجدادكم، والنعمة عليهم حين أنجاهم من آل فرعون، فأهلك عدوهم، والخير الذي أنزل عليهم في أرض التيه، وأعطاهم التوراة.
{وأني فضلتكم على العالمين}، يعني عالمي ذلك الزمان، يعني أجدادهم من غير بني إسرائيل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وتأويل ذلك في هذه الآية نظير تأويله في التي قبلها في قوله:"اذْكُرُوا نِعْمَتِي الّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأوْفُوا بعَهْدِي" وقد ذكرته هنالك.
"وأنّي فَضّلْتُكُمْ على العَالمِينَ ": وهذا أيضا مما ذكرهم جل ثناؤه من آلائه ونعمه عندهم. ويعني بقوله: "وأنّي فَضّلْتُكُمْ عَلى العَالَمِينَ": أني فضلت أسلافكم، فنسب نعمه على آبائهم وأسلافهم إلى أنها نعم منه عليهم، إذ كانت مآثر الاَباء مآثر للأبناء، والنعم عند الاَباء نعما عند الأبناء، لكون الأبناء من الاَباء، وأخرج جلّ ذكره قوله: "وأنّي فَضّلْتُكُمْ على العَالَمِينَ" مخرج العموم، وهو يريد به خصوصا لأن المعنى: وإني فضلتكم على عالم من كنتم بين ظهريه وفي زمانه... أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول الله: "وأنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ"، قال: عالم أهل ذلك الزمان. وقرأ قول الله: "وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلى العَالَمِينَ"، قال: هذه لمن أطاعه واتبع أمره، وقد كان فيهم القردة وهم أبغض خلقه إليه، وقال لهذه الأمة: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ" قال: هذه لمن أطاع الله واتبع أمره واجتنب محارمه.
والدليل على صحة ما قلنا من أن تأويل ذلك على الخصوص الذي وصفنا ما:
حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر جميعا، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إنّكُمْ وَفّيْتُمْ سَبْعِين أُمّةً» قال يعقوب في حديثه: «أنتم آخرها». وقال الحسن: «أنتم خيرها وأكرمها على الله». فقد أنبأ هذا الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لم يكونوا مفضلين على أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ} عطف على {نِعْمَتِيَ}: أي اذكروا نعمتي وتفضيلي {عَلَى العالمين} على الجم الغفير من الناس، كقوله تعالى: {بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين} [الأنبياء: 71] يقال: رأيت عالماً من الناس يراد الكثرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قد تكرر هذا النداء والتذكير بالنعمة، وفائدة ذلك أن الخطاب الأول يصح أن يكون للمؤمنين، ويصح أن يكون للكافرين منهم، وهذا المتكرر إنما هو للكافرين، بدلالة ما بعده، وأيضاً فإن فيه تقوية التوقيف وتأكيد الحض على ذكر أيادي الله وحسن خطابهم بقوله: {فضلتكم على العالمين} لأن تفضيل آبائهم وأسلافهم تفضيل لهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الغالب على أكثر الناس الجمود كرر النداء لهم مبالغة في اللطف بهم إثر الترجية والتخويف فقال: {يا بني إسرائيل} أي الذي أكرمته وأكرمت ذريته من بعده بأنواع الكرامة {اذكروا نعمتي} وفخم أمرها بقوله: {التي أنعمت عليكم} أي بإنزال الكتب وإرسال الرسل وغير ذلك. {وإني فضلتكم} والتفضيل الزيادة من خطوة جانب القرب والرفعة فيما يقبل الزيادة والنقصان منه -قاله الحرالي.
{على العالمين} وهم من كان قد برز الوجود في ذلك الزمان بالتخصيص بذلك دونهم، ولا يدخل في هذا من لم يكن برز إلى الوجود في ذلك الزمان...
ومما يوجب القطع به قوله تعالى لنا: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]. ولما ذكرهم بتخصيصهم بالكرامة ونهاهم عن المخالفة وكانت المخالفة مع عظيم النعمة أقبح وأشد وأفحش حذّرهم يوماً لا ينجي أحداً فيه إلا تقواه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
عاد إلى التذكير بالنعمة بنوع من التفصيل، فإن النعمة في الآية الأولى مجملة والإجمال ينبه الفكر إلى الذكر في الجملة، فإذا تلاه التفصيل والبيان كان على استعدادهم تام لكمال الفهم [فيكون التذكر أتم والتأثر أقوى، والشكر على النعمة أرجى]. ثم طلب منهم أن يذكروا نعمته عليهم، وتفضيله إياهم على الناس، إحياء لشعور الكرامة في نفوسهم، ووصله بالأمر باتقاء يوم الدين والجزاء.
وهذا أسلوب حكيم في الوعظ، فينبغي لكل واعظ أن يبدأ وعظه بإحياء إحساس الشرف وشعور الكرامة في نفوس الموعوظين لتستعد بذلك لقبول الموعظة [وتجد من ذلك الإحساس معونة من العزيمة الصادقة التي هي من خصائص النفوس الكريمة على عوامل الهوى والشهوة، فإن النفس إذا استشعرت كرامتها وعلوها ونظرت إلى ما في الرذائل من الخسة أبى لها ذلك الشعور – شعور العلو والرفعة – أن تنحط إلى تعاطي تلك الخسائس، وكان ذلك من أقوى الوسائل لمساعدة الواعظ على بلوغ قصده من نفس من يوجه إليه وعظه، ثم إن في الوعظ مسا يؤلم نفس الموعوظ وجرحا يكاد يحملها على النفرة من تلقينه والاستنكاف من سماعه، فذكر الواعظ لما يشعر بكرامة المخاطب ورفعة شأنه، وإباء ما ينمى إليه أن يدوم على مثل ما يقترف يقبل بالنفس على القبول كما يقبل الجريح على من يضمد جراحه ويسكن آلامه].
ألا وإن هذا الشعور بالشرف والرفعة ملازم للإنسان لا يفارقه ولكنه قد يضعف حتى لا يظهر له أثر، وفي تحريك الواعظ له اعتراف ضمني بكرامة وفضل للموعوظ يشفعان له بما يستلزمه الوعظ من مظنة الإهانة فيسهل احتماله ويقرب قبوله.
[و] شعور العزة والكرامة أمر شريف يحييه الإيمان في نفوس المؤمنين الصادقين بل يستلزمه على وجه أكمل لأن صاحب الإيمان الصحيح يرى أن له نسبة على الرب العظيم خالق السموات والأرض، وأنه سنده وممده، وعند ذلك تعلو نفسه وترتفع.
[ف] من كان يشعر لنفسه بقيمة أو يجد لها حقا في أن تعز وتكرم تراه إذا خلا بنفسه وتذكر أنه ألم بنقيصة يتألم ويتململ ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. وإذا تذكر المؤمن أن قلبه الذي تشرف بمعرفة الله تعالى [وأن شرف تلك المعرفة خلصه من العبودية لغيره وصيره مربوبا لرب العالمين وحدد فهو في ذلك مع أرفع رفيع وأكرم كريم سواء – إذا ذكر ذلك لم يرمن بمثل هذا الاختصاص أن يجاوره ما يدنسه من الاستعباد لما يذله، بل يرى أن ذلك الشعور الطاهر والعرفان الهادي إلى مقامات الكرامة لا ينبغي أن يزاحمه في موطنه من القلب دنس من رجس الرذائل] فينفر من هذه المزاحمة وتثقل عليه ويسهل عليه التزكي مما ألم به والإنابة إلى الله تعالى (قال) لهذا بدأ الله تعالى تذكير بني إسرائيل بما بدأ وثنى بما ثنى، وهو يتضمن من التقريع والتوبيخ ما يشعر بغلظ طباعهم وفساد قلوبهم، فإن من لا يتأدب بإحياء إحساس الكرامة، يؤدب بالتأنيب والإهانة؛
العبد يقرع بالعصا *** والحر تكفيه الإشارة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم عودة إلى نداء بني إسرائيل، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم، وتخويفهم ذلك اليوم المخيف إجمالا قبل الأخذ في التفصيل:
(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأني فضلتكم على العالمين. واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا، ولا يقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل، ولا هم ينصرون).
وتفضيل بني إسرائيل على العالمين موقوت بزمان استخلافهم واختيارهم، فأما بعد ما عتوا عن أمر ربهم، وعصوا أنبياءهم، وجحدوا نعمة الله عليهم، وتخلوا عن التزاماتهم وعهدهم، فقد اعلن الله حكمه عليهم باللعنة والغضب والذلة والمسكنة، وقضى عليهم بالتشريد وحق عليهم الوعيد.
وتذكيرهم بتفضيلهم على العالمين، هو تذكير لهم بما كان لهم من فضل الله وعهده؛ وإطماع لهم لينتهزوا الفرصة المتاحة على يدي الدعوة الإسلامية، فيعودوا إلى موكب الإيمان. وإلى عهد الله؛ شكرا على تفضيله لآبائهم، ورغبة في العودة إلى مقام التكريم الذي يناله المؤمنين.
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
وقد يقال إن اليهود كانوا من قسوة القلوب وتبلد الأذهان وتحجر الأفكار بحيث لا تجدي فيهم موعظة ولا ينفع فيهم التذكير، وهل أثر هذا الأسلوب القرآني البليغ في نفوسهم شيئا، أو أنهم ازدادوا عتوا واستكبارا، وإباءً للحق، وتعاميا عن الحقيقة، وإخلادا إلى الباطل، وتمسكا بالضلالة.
والجواب ان القرآن الكريم جعله الله منارا للعالمين في جميع العصور، وهو في مخاطبته لبني إسرائيل بهذا الأسلوب يرسم لنا منهاج الدعوة، ويعلمنا كيف نتعامل مع المدعوين ونصابرهم، وإن غلظ شعورهم وساء صنعهم ولم يلقونا إلا بشراسة الأخلاق وسوء المعاملة، وهذا هو مسلك الدعوة في جميع رسالات الله، وعند جميع رسله،
فانظروا كيف صبر نوح عليه السلام على عنت قومه وإصرارهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وهذا فرعون الطاغية الذي نازع جبار السماوات والأرض في ألوهيته يرسل الله إليه موسى وهارون ويأمرهما أن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى مع ما سبق في علم الله أن موعظته لا تجدي فيه شيئا بل لا تجد مسلكا إلى نفسه التي ران عليها طبع اللؤم والفساد، وهذه أوامر الله وتوجيهاته لخاتم رسله وصفوة خلقه صلى الله عليه وسلم بأن يدأب على الدعوة ويقارع بها قومه مع قوله فيهم: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} [يس: 7]
على أن بني اسرائيل قد رقت قلوب طائفة منهم ونارت عقولهم فاتبعوا الحق الذي أنزل كعبد الله بن سلام رضي الله عنه،
وفي أمثال هؤلاء يقول الله سبحانه: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، وقد قال تعالى في صفوة أهل الكتاب عموما: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص: 52 -54]...