البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (47)

الفضل : الزيادة ، واستعماله في الخير ، وفعله فعل يفعل ، وأصله أن يتعدى بحرف الجر ، وهو على ثم بحذف على ، على حد قول الشاعر ، وقد جمع بين الوجهين :

وجدنا نهشلاً فضلت فقيما *** كفضل ابن المخاض على الفصيل

وأما في الفضلة من الشيء ، وهي البقية ، فيقال : فضل يفضل ، كالذي قدمناه ، وفضل يفضل ، نحو : سمع يسمع ، وفضل يفضل ، بكسرها من الماضي ، وضمها من المضارع ، وقد أولع قوم من النحويين بإجازة فتح ضاد فضلت في البيت وكسرها ، والصواب الفتح .

{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } : تقدم الكلام في شرح هذا ، وأعيد نداؤهم ثانياً على طريق التوكيد ، ولينبهوا لسماع ما يرد عليهم من تعداد النعم التي أنعم الله بها عليهم ، وتفصيلها نعمة نعمة ، فالنداء الأول للتنبيه على طاعة المنعم ، والنداء الثاني للتنبيه على شكر النعم .

{ وأني فضلتكم } : ثم عطف التفضيل على النعمة ، وهو من عطف الخاص على العام لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور ، وهو ما انفردت به الواو دون سائر حروف العطف ، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يذكر لنا هذا النحو من العطف ، وأنه يسمى بالتجريد ، كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر على سبيل التفضيل ، وقال الشاعر :

أكر عليهم دعلجاً ولبانه*** إذا ما اشتكى وقع القناة تحمحما

دعلج : هنا اسم فرس ، ولبانه : صدره ، ولأبي الفتح بن جني كلام في ذلك يكشف من سر الصناعة له .

{ على العالمين } : أي عالمي زمانهم ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم ، أو على كل العالمين ، بما جعل فيهم من الأنبياء ، وجعلهم ملوكاً وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، وذلك خاصة لهم دون غيرهم .

فيكون عاماً والنعمة مخصوصة .

قالوا : ويدفع هذا القول : { كنتم خير أمة } أو على الجم الغفير من الناس ، يقال : رأيت عالماً من الناس ، يراد به الكثرة .

وعلى كل قول من هذه الأقوال الثلاثة لا يلزم منه التفضيل على هذه الأمة ، لأن من قال بالعموم خص النعمة ، ولا يلزم التفضيل على كل عالم بشيء خاص التفضيل من جميع الوجوه ، ومن قال بالخصوص فوجه عدم التفضيل مطلقاً ظاهر .

وقال القشيري : أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال : { وأني فضلتكم على العالمين } ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } فشتان بين من مشهوده فضل ربه ، ومن مشهوده فضل نفسه .

فالأول يقتضي الثناء ، والثاني يقتضي الإعجاب ، انتهى .

وآخره ملخص من كلامه . .