اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (47)

أعاد الكلام توكيداً للحجّة عليهم ، وتحذيراً من ترك اتباع محمد عليه الصلاة والسلام .

قوله : " وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ " " أن " وما في حَيّزها في محلّ نصب لعطفها على المَنْصُوب في قوله : " اذْكُرُوا نِعْمَتي " أي : اذكروا نِعْمَتِي وتفضيلي إيَّاكم ، والجار متعلّق به ، وهذا من باب عطف الخَاصّ على العام ؛ لأن النعمة تشمل التَّفْضِيل .

والفضل : الزيادة في الخير ، واستعماله في الأصل التعدّي ب " على " ، وقد يتعدَّى ب " عَنْ " إمَّا على التضْمِين ، وإما على التجوُّز في الحذف ؛ كقوله : [ البسيط ]

460 لاَهِ ابْنُ عَمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ *** عَنِّي وَلاَ أَنْتَ دَيَّانِي فتَخْزُونِي

وقد يتعدّى بنفسه ؛ كقوله : [ الوافر ]

461 وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً *** كَفَضْلِ ابْنِ المَخَاضِ عَلَى الفَصِيلِ

فعدّاه بنفسه ، وب " عن " ، وفعله " فَضَل " بالفَتْحِ " يَفْضُل " بالضم ك : " قَتَل يَقْتُل " .

وأما الذي معناه " الفَضْلَة " من الشيء ، وهي : البقيّة فَفِعْلُه أيضاً كما تقدم .

ويقال فيه أيضاً : " فَضِل " بالكسر " يَفْضَلُ " بالفتح ك : " عَلِم يَعْلَم " ، ومنهم من يكسرها في الماضي ، ويضمّها في المضارع ، وهو من التَّدَاخل بين اللغتين .

فإن قيل : قوله : { أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } يلزم منه أن يكونوا أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام وذلك باطل .

والجواب من وجوه :

أحدها : قال قوم : العالم عبارةٌ عن الجمع الكثير من النَّاس كقولك : رأيت عالماً من النَّاس ، والمراد منه الكثرة ، [ وهذا ] ضعيف ؛ لأن لفظ العالم مشتقّ من العلم وهو الدليل ، فكل ما كان دليلاً على الله تعالى فإنه عالم ، وهذا تحقيق قول المتكلمين : العالم كلّ موجود سوى الله .

وثانيها : المراد فضلتكم على عالمي زمانكم ، فإن الشَّخص الذي لم يوجد بعد ليس من جملة العالمين ، ومحمد عليه الصلاة والسلام ما كان موجوداً في ذلك الوَقْتِ ، فما كان ذلك الوقت من العالمين ، فلا يلزم من كون بني إسرائيل أَفْضَلَ العالمين في ذلك الوَقْت كونهم أفضل من محمد ، وهذا هو الجواب أيضاً عن قوله تعالى : { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ } [ المائدة : 20 ] ، وقال : { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الدخان : 32 ] ، أراد به عالمي ذلك الزمان .

وثالثها : قوله : { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } عام في العالمين ، لكنه مطلق في الفضل ، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة ، فالآية تدلّ على أن بني إسرائيل فضّلوا على كل العالمين في أمرٍ ما ، وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كلّ العالمين في كل الأمور ، بل لعلهم ، وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد ، فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر ، وعند ذلك يظهر أنه لا يصحّ الاستدلال بقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 33 ] على أن الأنبياء أفضل من الملائكة .

تنبيه

قال : " ابن زَيْدٍ " : أراد به المؤمن منهم ؛ لأن عُصَاتهم مُسِخُوا قردةً وخنازير . وقال : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ المائدة : 78 ] .

فصل في بيان أن خطاب الله لبني إسرائيل هو كذلك للعرب

جميع ما خوطب به بنو إسرائيل تنبيه للعرب ، وكذلك أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد ، قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ }

[ يوسف : 111 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }

[ الزمر : 18 ] .

وروى قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول : قد مضى والله بَنُو إسرائيل وما يغني ما تَسْمَعُونَ [ عن ] غيركم .

فإن قيل : لما [ خصهم ] بالنعم العظيمة في الدنيا ، فهذا يناسب أن يخصهم أيضاً بالنعم العظيمة في الآخرة ، كما قيل : إتمام المعروف خَيْرٌ من ابتدائه ، فلم أردف ذلك التخويف الشديد في قوله : { وَاتَّقُواْ يَوْماً } [ البقرة : 48 ] .

والجواب : [ أن ] المعصية مع عظيم النِّعمة تكون أقبح وأفحش ، فلهذا حذرهم عنها .