{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا }
يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة ، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } أي : جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل ، والحلال والحرام ، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم ، في سيرهم الحميدة ، وأفعالهم السديدة ، وشمائلهم الكاملة ، وتوفيقهم التام . فلذلك نفذ ما أراده ، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم ، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل .
{ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي : يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا{[206]} من الوقوف على ما حده الله ، والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده .
ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم الإنابة إليه ، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له . فله الحمد والشكر على ذلك .
وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : كامل الحكمة ، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، ومنها هذه الأشياء والحدود . ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه ، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة .
تذييل يقصد منه استئناس المؤمنين واستنزال نفوسهم إلى امتثال الأحكام المتقدّمة من أوّل السورة إلى هنا ، فإنّها أحكام جمّة وأوامر ونواه تفضي إلى خلع عوائدَ ألفوها ، وصرفِهم عن شهوات استباحوها ، كما أشار إليه قوله بعد هذا { ويريد الذين يتبعون الشهوات } [ النساء : 27 ] ، أي الاسترسال على ما كانوا عليه في الجاهلية ، فأعقب ذلك ببيان أنّ في ذلك بيانا وهُدى . حتّى لا تكون شريعة هذه الأمّة دون شرائع الأمم التي قبلها ، بل تفوقُها في انتظام أحوالها ، فكان هذا كالاعتذار على ما ذكر من المحرّمات . فقوله : { يريد الله ليبين لكم } تعليل لتفصيل الأحكام في مواقع الشبهات كي لا يضلّوا كما ضلّ من قبلهم ، ففيه أنّ هذه الشريعة أهدى ممّا قبلها .
وقوله : { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } بَيان لقصدِ إلحاق هذه الأمّة بمزايا الأمم التي قبلها .
والإرادة : القصد والعزم على العمل ، وتطلق على الصفة الإلهيّة التي تخصّص الممكن ببعض ما يجوز عليه . والامتنانُ بما شرعه الله للمسلمين من توضيح الأحكام قد حصلت إرادته فيما مضى ، وإنّا عُبّر بصيغة المضارع هنا للدلالة على تجدّد البيان واستمراره ، فإنّ هذه التشريعات دائمة مستمرّة تكون بيانا للمخاطبين ولمن جاء بعدهم ، وللدلالة على أنّ الله يُبقي بعدها بياناً متعاقباً .
وقوله : { يريد الله ليبين لكم } انتصب فعل ( يبيّنَ ) بأنْ المصدرية محذوفة ، والمصدر المنسبك مفعول ( يريد ) ، أي يريد الله البيانَ لكم والهُدى والتوبةَ ، فكانَ أصل الاستعمال ذكر ( أنْ ) المصدرية ، ولذلك فاللام هنا لتوكيد معنى الفعل الذي قبلها ، وقد شاعت زيادة هذه اللاّم بعد مادّة الإرادة وبعد مادّة الأمر معاقِبة لأن المصدرية . تقول ، أريد أن تفعل وأريد لِتَفْعَل ، وقال تعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } [ التوبة : 32 ] وقال : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } [ الصف : 8 ] وقال : { وأمرت أن أسلم لرب العالمين } [ غافر : 66 ] وقال : { وأمرت لأعدل بينكم } [ الشورى : 15 ] فإذا جاؤوا باللاّم أشبهت لام التعليل فقدّروا ( أنْ ) بعد اللام المؤكّدة كما قد روها بعد لاَم كي لأنّها أشبهتها في الصورة ، ولذلك قال الفرّاء : اللام نائبة عن أن المصدرية . وإلى هذه الطريقة مال صاحب « الكشاف » .
وقال سيبويه : هي لام التعليل أي لام كي ، وأنّ ما بعدها علّة ، ومفعولَ الفعل الذي قبلها محذوف يقدّر بالقرينة ، أي يريد الله التحليل والتحريم ليبيّن . ومنهم من قرّر قول سيبويه بأنّ المفعول المحذوف دلّ عليه التعليل المذكور فيقدّر : يريد الله البيانَ ليبيّن ، فيكون الكلام مبالغة بجعل العلّة نفس المعلّل .
وقال الخليل ، وسيبويه في رواية عنه : اللاّم ظَرف مستقرّ هو خبر عن الفعل السابق ، وذلك الفعلُ مقدّر بالمصدر دون سابك على حدّ « تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه » أي إرادة الله كائنة للبيان ، ولعلّ الكلام عندهم محمول على المبالغة كأنّ إرادة الله انحصرت في ذلك .
وقالت طائفة قليلة : هذه اللاّم للتقوية على خلاف الأصل ، لأنّ لام التقوية إنّما يجاء بها إذا ضعف العامل بالفرعية أو بالتأخّر . وأحسن الوجوه قول سيبويه ، بدليل دخول اللام على كَي في قول قيس بن سعد بن عَبادة الخزرجي .
أردتُ لكيمَا يَعْلَمَ الناسُ أنّها *** سَراويلُ قَيس والوفود شهود
وعن النحّاس أنّ بعض القرّاء سمّى هذه اللاّم لام ( أنْ ) .
ومعنى { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } الهداية إلى أصول ما صلح به حال الأمم التي سبقتنا ، من كليات الشرائع ، ومقاصدها . قال الفخر : « فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها ، إلاّ أنّها متّفقة في باب المصالح » . قلت : فهو كقوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } الآية .
وقوله : { ويتوب عليكم } أي يتقبّل توبتكم ، إذْ آمنتم ونبذتم ما كان عليه أهل الشرك من نكاح أزواج الآباء ، ونكاح أمّهات نسائكم ، ونكاح الربائب ، والجمع بين الأختين .
ومعنى : { ويتوب عليكم } يقبل توبتكم الكاملة باتّباع الإسلام ، فلا تنقضوا ذلك بارتكاب الحرام . وليس معنى { ويتوب عليكم } يوفّقكم للتوبة ، فيشكل بأنّ مراد الله لا يتخلّف ، إذ ليس التوفيق للتوبة بمطّرد في جميع الناس . فالآية تحريض على التوبة بطريق الكناية لأنّ الوعد بقبولها يستلزم التحريض عليها مثل ما في الحديث : " فيقول هل من مستغفر فأغفر له ، هل من داع فأستجيب له " هذا هو الوجه في تفسيرها ، وللفخر وغيره هنا تكلّفات لا داعي إليها .
وقوله : { والله عليم حكيم } مناسب للبيان والهداية والترغيب في التوبة بطريق الوعد بقبولها ، فإنّ كلّ ذلك أثر العلم والحكمة في إرشاد الأمّة وتقريبها إلى الرشد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.