{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }
وهذا الفعل المذكور في هذه الآية ، فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة ، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين ، وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية ، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود ، بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو قينقاع ، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة .
فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم{[92]} الفرقة الأخرى من اليهود ، فيقتل اليهودي اليهودي ، ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها ، وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا .
والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم ، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض ، ولا يخرج بعضهم بعضا ، وإذا وجدوا أسيرا منهم ، وجب عليهم فداؤه ، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين ، فأنكر الله عليهم ذلك فقال : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ } وهو فداء الأسير { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو القتل والإخراج .
وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي ، وأن المأمورات من الإيمان ، قال تعالى : { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وقد وقع ذلك فأخزاهم الله ، وسلط رسوله عليهم ، فقتل من قتل ، وسبى من سبى منهم ، وأجلى من أجلى .
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } أي : أعظمه { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
يقول ، تبارك وتعالى ، منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج ، وهم الأنصار ، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام ، وكانت بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل : بنو قينقاع . وبنو النضير حلفاء الخزرج . وبنو قريظة حلفاء الأوس . فكانت الحرب إذا نشبت{[2106]} بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ، فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهوديّ الآخرُ من الفريق الآخر ، وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه ، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب ، عملا بحكم التوراة ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ولهذا قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي : لا يقتل بعضكم بعضًا ، ولا يخرجه من منزله ، ولا يظاهر عليه ، كما قال تعالى : { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ]
وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " .
[ وقوله ]{[2107]} { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أي : ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } ( 84 )
والسفك صب الدم وسرد الكلام ، وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة «لا تسفُكون » بضم الفاء ، وقرأ أبو نهيك «تُسفِّكون » بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها ، وإعراب { لا تسفكون } كما تقدم في { لا تعبدون } ، و { دماءكم } جمع دم ، وهو اسم منقوص أصله دمي ، وتثنيته دميان ، وقيل أصله دمْي بسكون الميم ، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في الواحد .
وقوله تعالى { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } معناه ولا ينفي بعضكم بعضاً بالفتنة والبغي ، ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً وكانوا في الأمم كالشخص الواحد ، جعل قتل بعضهم لبعض ونفي بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها ، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول( {[885]} ) ، وقيل { لا تسفكون دماءكم } أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصاً ، فكأنه سفك دم نفسه لما سبب ذلك ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره ، وهذا تأويل فيه تكلف ، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقاً أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق إلى غير ذلك من الطاعات .
وقوله تعالى { ثم أقررتم } أي خلفاً بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء ، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله ، أي أقررتم هذا الميثاق ملتزماً .
وقوله { وأنتم تشهدون }( {[886]} ) قيل الخطاب يراد به من سلف منهم والمعنى وأنتم شهود أي حضور أخذ الميثاق والإقرار ، وقيل إن المراد من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى وأنتم شهداء أي بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.