{ ف } لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه { أَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } هل يشعر به آل فرعون ، أم لا ؟ وإنما خاف ، لأنه قد علم ، أنه لا يتجرأ أحد على مثل هذه الحال سوى موسى من بني إسرائيل .
فبينما هو على تلك الحال { فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ } على عدوه { يَسْتَصْرِخُهُ } على قبطي آخر . { قَالَ لَهُ مُوسَى } موبخا له على حاله { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } أي : بين الغواية ، ظاهر الجراءة .
يقول تعالى مخبرًا عن موسى ، عليه السلام{[22236]} ، لما قتل ذلك القبطي : إنه أصبح { فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا } أي : من مَعَرّة ما فعل ، { يَتَرَقَّبُ } أي : يتلفت ويتوقع{[22237]} ما يكون من هذا الأمر ، فمر في بعض الطرق ، فإذا ذاك{[22238]} الذي استنصره بالأمس على ذلك القبطي يقاتل آخر ، فلما مر موسى ، استصرخه على الآخر ، فقال له موسى : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } أي : ظاهر الغواية كثير الشر .
وقوله تعالى { فأصبح } عبارة عن كونه دائم الخوف في كل أوقاته كما تقول : أصبح زيد عالماً ، و { يترقب } معناه عليه رقبة من فعله في القتل فهو متحسس ، قال ابن عباس : فمر وهو بحالة الترقب وإذا ذلك الإسرائيلي الذي قاتل القبطي بالأمس يقاتل آخر من القبط ، وكان قتل القبطي قد خفي عن الناس واكتتم فلما رأى الإسرائيلي موسى استصرخه بمعنى صاح به مستغيثاً ومنه قول الشاعر [ سلامة بن جندل ] : [ البسيط ]
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع . . . كان الصراخ له فزع الظنابيب{[9127]}
فلما رأى موسى قتاله لآخر أعظم ذلك وقال له معاتباً ومؤنباً { إنك لغوي مبين } وكانت إرادة موسى مع ذلك أن ينصر الإسرائيلي فلما دنا منهما خشي الإسرائيلي وفزع منه وظن أنه ربما ضربه وفزع من قوته التي رأى بالأمس فناداه بالفضيحة وشهر أمر المقتول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأصبح} موسى من الغد {في المدينة خائفا يترقب} يعني: ينتظر الطلب، {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه} يعني: يستغيثه ثانية على رجل آخر كافر من القبط، {قال له موسى} للذي نصره بالأمس، الإسرائيلي: {إنك لغوي مبين} يقول: إنك لمضل مبين قتلت أمس في سببك رجلا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فأصبح موسى في مدينة فرعون خائفا من جنايته التي جناها، وقتله النفس التي قتلها أن يُؤخذ فيقتل بها "يَتَرقّبُ "يقول: يترقب الأخبار: أي ينتظر ما الذي يتحدّث به الناس، مما هم صانعون في أمره وأمر قتيله...
وقوله: "فإذَا الّذِي اسْتَنْصَرَهُ بالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ" يقول تعالى ذكره: فرأى موسى لما دخل المدينة على خوف مترقبا الأخبار عن أمره وأمر القتيل، فإذا الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس على الفرعونيّ يقاتله فرعونيّ آخر، فرآه الإسرائيلي فاستصرخه على الفرعونيّ. يقول: فاستغاثه أيضا على الفرعونيّ، وأصله من الصّراخ... قال له موسى: "إنّكَ لَغَوِيّ مُبِينٌ" يقول جَلّ ثناؤه: قال موسى للإسرائيلي الذي استصرخه، وقد صادف موسى نادما على ما سلف منه من قتله بالأمس القتيل، وهو يستصرخه اليوم على آخر: إنك أيها المستصرخ "لغويّ": يقول: إنك لذو غواية، "مبين": يقول: قد تبيّنت غوايتك بقتلك أمس رجلاً، واليوم آخر... عن قَتادة: "فإذَا الّذِي اسْتَنْصَرَهُ بالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ" قال: الاستنصار والاستصراخ واحد...
عن السديّ "فإذَا الّذِي اسْتَنْصَرَهُ بالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ" يقول: يستغيثه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وقوله تعالى: {يترقب} قال عامة أهل التأويل: {يترقب} أي ينتظر سوءا يناله منهم. وقال أبو عوسجة: الترقب الخوف؛ كأنه قال: خائفا هلاكه. وأصل الترقب هو النظر، والرقوب أن يرقب من يطلبه، وهو من الرقيب. وقوله تعالى: {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين} كان الرجل الذي أخبر أنه من شيعته ضعيفا في نفسه حتى لا يقدر أن يقوم لواحد، فيستنصر بموسى، ويستعين به. إلا أنه كان يخاصم، وينازع، ويقاتل، لسوء فيه وبلاء... [إنما عرف موسى] غوايته بالاستدلال الذي ذكرنا لا بالمشاهدة. ولذلك أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما... وذكر ههنا البطش، وهو الأخذ باليد، وفي الأول ذكر الوكزة، وهي الدفع والطعن على ما ذكرنا، فهو، والله أعلم، لأنه لما ذكر الأول، فأتت الوكزة على نفسه، فقتلته، فأخذ هذا من هذا ليمنعه عن إهلاكه وإتلافه، ولا يأتي على نفس الآخر كما فعلت الوكزة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى {فأصبح} عبارة عن كونه دائم الخوف في كل أوقاته كما تقول: أصبح زيد عالماً، و {يترقب} معناه عليه رقبة من فعله في القتل فهو متحسس، قال ابن عباس: فمر وهو بحالة الترقب وإذا ذلك الإسرائيلي الذي قاتل القبطي بالأمس يقاتل آخر من القبط، وكان قتل القبطي قد خفي عن الناس واكتتم فلما رأى الإسرائيلي موسى استصرخه بمعنى صاح به مستغيثاً...
فلما رأى موسى قتاله لآخر أعظم ذلك وقال له معاتباً ومؤنباً {إنك لغوي مبين} وكانت إرادة موسى مع ذلك أن ينصر الإسرائيلي فلما دنا منهما خشي الإسرائيلي وفزع منه وظن أنه ربما ضربه وفزع من قوته التي رأى بالأمس فناداه بالفضيحة وشهر أمر المقتول.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر القتل وأتبعه ما هو الأهم من أمره بالنظر إلى الآخرة، ذكر ما تسبب عنه من أحوال الدنيا فقال: {فأصبح} أي موسى عليه الصلاة والسلام {في المدينة} أي التي قتل القتيل فيها {خائفاً} أي بسبب قتله له {يترقب} أي لازم الخوف كثير الالتفات برقبته ذعراً من طارقة تطرقه في ذلك... {فإذا} أي ففجئه {الذي استنصره} أي طلب نصرته من شيعته {بالأمس} أي اليوم الذي يلي يوم الاستصراخ من قبله {يستصرخه} أي يطلب ما يزيل ما يصرخ بسببه من الضر من قبطي آخر كان يظلمه، فكأنه قيل: فما قال له موسى بعدما أوقعه فيما يكره؟ فقيل: {قال له} أي لهذا المستصرخ {موسى}.
ولما كان الحال متقضياً أن ذلك الإسرائيلي يمكث مدة لا يخاصم أحداً خوفاً من جريرة ذلك القتيل، أكد قوله: {إنك لغوي} أي صاحب ضلال بالغ {مبين} أي واضح الضلال غير خفيه، لكون ما وقع بالأمس لم يكفك عن الخصومة لمن لا تطيقه وإن كنت مظلوماً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولفظ (يترقب) يصور هيئة القلِق الذي يتلفت ويتوجس، ويتوقع الشر في كل لحظة.. وهي سمة الشخصية الانفعالية تبدو في هذا الموقف كذلك. والتعبير يجسم هيئة الخوف والقلق بهذا اللفظ، كما أنه يضخمها بكلمتي (في المدينة) فالمدينة عادة موطن الأمن والطمأنينة، فإذا كان خائفا يترقب في المدينة، فأعظم الخوف ما كان في مأمن ومستقر! وحالة موسى هذه تلهم أنه لم يكن في هذا الوقت من رجال القصر. وإلا فما أرخص أن يزهق أحد رجال القصر نفسا في عهود الظلم والطغيان! وما كان ليخشى شيئا فضلا على أن يصبح (خائفا يترقب) لو أنه كان ما يزال في مكانه من قلب فرعون وقصره.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستصراخ: المبالغة في الصراخ، أي النداء، وهو المعبر عنه في القصة الماضية بالاستغاثة فخولف بين العبارتين للتفنن. وقول موسى له {إنك لغوي مبين} تذمر من الإسرائيلي إذ كان استصراخه السالف سبباً في قتل نفس، وهذا لا يقتضي عدم إجابة استصراخه وإنما هو بمنزلة التشاؤم واللوم عليه في كثرة خصوماته. والغوي: الشديد الغواية وهي الضلال وسوء النظر، أي أنك تشاد من لا تطيقه ثم تروم الغوث مني يوماً بعد يوم، وليس المراد أنه ظالم أو مفسد لأنه لو كان كذلك لما أراد أن يبطش بعدوه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} فإنك لا تسلك طريق الرشد الذي يفرض على الإنسان أن يحلّ الأمور بالتي هي أحسن بعيداً عن العنف، أو أن يبتعد عن الدخول في القضايا التي تثير الخلاف من حوله.