{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ْ }
يخبر تعالى عن أهل الكتب{[271]} من أهل القرآن والتوراة والإنجيل ، أن سعادتهم ونجاتهم في طريق واحد ، وأصل واحد ، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر [ والعمل الصالح ]{[272]} فمن آمن منهم بالله واليوم الآخر ، فله النجاة ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من الأمور المخوفة ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها . وهذا الحكم المذكور يشمل سائر الأزمنة .
ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } وهم : المسلمون { وَالَّذِينَ هَادُوا } وهم : حملة التوراة { وَالصَّابِئُونَ } - لما طال الفصل حسن العطف بالرفع . والصابئون : طائفة بين{[10125]} النصارى والمجوس ، ليس لهم دين . قاله مجاهد ، وعنه : بين{[10126]} اليهود والمجوس . وقال سعيد بن جبير : بين{[10127]} اليهود والنصارى ، وعن الحسن [ والحكم ]{[10128]} إنهم كالمجوس . وقال قتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى غير القبلة ، ويقرؤون الزبور . وقال وَهْب بن مُنَبّه : هم قوم يعرفون الله وحده ، وليست لهم شريعة يعملون بها ، ولم يحدثوا كفرًا .
وقال ابن وَهْب : أخبرني ابن أبي الزَّنَاد ، عن أبيه قال : الصائبون : قوم مما يلي العراق ، وهم بكوثى ، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ، ويصومون كل سنة ثلاثين يوما ، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات . وقيل غير ذلك .
وأما النصارى فمعروفون ، وهم حملة الإنجيل .
والمقصود : أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم{[10129]} الآخر ، وهو المعاد والجزاء يوم الدين ، وعملت عملا صالحًا ، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقًا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلونه{[10130]} ولا على ما تركوا وراء ظهورهم { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } وقد تقدم الكلام على نظيراتها في سورة البقرة ، بما أغنى عن إعادته . {[10131]}
{ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى } سبق تفسيره في سورة " البقرة " والصابئون رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز إن والتقدير : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك كقوله :
فإني وقيار بها لغريب *** . . .
وإلا فاعلموا أنا وأنتم *** بغاة ما بقينا في شقاق
أي فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ، وهو كاعتراض دل به على أنه لما كان الصابئون مع ظهور ضلالهم وميلهم عن الأديان كلها يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح ، كان غيرهم أولى بذلك . ويجوز أن يكون والنصارى معطوفا عليه ومن آمن خبرهما وخبر إن مقدر دل عليه ما بعده كقوله :
نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راض والرأي مختلف
ولا يجوز عطفه على محل إن واسمها فإنه مشروط بالفراغ من الخبر ، إذ لو عطف عليه قبله كان الخبر خبر المبتدأ وخبر إن معا فيجتمع عليه عاملان ولا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل ، ولأنه يوجب كون الصابئين هودا وقيل إن بمعنى نعم وما بعدها في موضع الرفع بالابتداء . وقيل { الصابئون } منصوب بالفتحة وذلك كما جوز بالياء جوز بالواو . { من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } في محل الرفع بالابتداء وخبره . فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } والجملة خبر إن أو خبر المبتدأ كما مر والراجع محذوف ، أي من آمن منهم ، أو النصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه . وقرئ و " الصابئين " وهو الظاهر و " الصابيون " بقلب الهمزة ياء و " الصابون " بحذفها من صبأ بإبدال الهمزة ألفا ، أو من صبوت لأنهم صبوا إلى اتباع الشهوات ولم يتبعوا شرعا ولا عقلا .
{ الذين } لفظ عام لكل مؤمن من ملة محمد ومن غيرها من الملل ، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم ، وبينت الطوائف على اختلافها ، وهذا تأويل جمهور المفسرين ، وقال الزجاج المراد بقوله : { إن الذين آمنوا } المنافقون ، فالمعنى أن الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم .
قال القاضي أبو محمد : فكأن ألفاظ الآية عدت الطوائف التي يمكن أن تنتقل إلى الإيمان ، ثم نفى عنهم الخوف والحزن بشرط انتقالهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وعلى التأويل الأول ويكون قوله { من آمن } في حيز المؤمنين بمعنى ثبت واستمر ، وقد تقدم تفسير { هادوا } وتفسير «الصائبين » وتفسير { النصارى } في سورة البقرة ، واختلف القراء في إعراب الصابئين في هذه الآية فقرأ الجمهور و «الصابئون » بالرفع وعليه مصاحف الأمصار والقراء السبعة ، وقرأ عثمان بن عفان وعائشة وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والجحدري «والصابين » وهذه قراءة بينة الإعراب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري «والصابيون » بكسر الباء وضم الياء دون همز وقد تقدم في سورة البقرة وأما قراءة الجمهور «والصابئون » فمذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة أنه من المقدم الذي معناه التأخير وهو المراد به ، كأنه قال «إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصابئون والنصارى » كذلك ، وأنشد الزجاج نظيراً في ذلك :
وإلا فاعلموا أنا وأنتم *** بغاة ما بقينا في شقاق{[3]}
فقوله وأنتم مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى أي وأنتم كذلك ، وحكى الزجّاج عن الكسائي والفراء أنهما قالا : و { الصابئون } عطف على { الذين } ، إذ الأصل في { الذين } الرفع وإذ نصب { إن } ضعيف{[4]} وخطأ الزجّاج هذا القول وقال : { إن } أقوى النواصب ، وحكي أيضاً عن الكسائي أنه قال و { الصابئون } عطف على الضمير في { هادوا } والتقدير هادوا هم الصابئون ، وهذا قول يرده المعنى لأنه يقتضي أن الصابئين هادوا ، وقيل إن معنى نعم ، وما بعدها مرفوع بالابتداء{[5]} ، وروي عن بعضهم أنه قرأ «والصابئون » بالهمز ، واتصال هذه الآية بالتي قبلها هو أن قيل لهم ليس الحق في نفسه على ما تزعمون من أنكم أبناء الله وأحباؤه ، بل لستم على شيء مستقيم حتى تؤمنوا وتقيموا الكتب المنزلة ، ثم استأنف الإخبار عن الحق في نفسه بأنه من آمن في كل العالم فهو الفائز الذي لا خوف عليه .