{ 26-30 } { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا * وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا }
يقول تعالى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } من البر والإكرام الواجب والمسنون وذلك الحق يتفاوت بتفاوت الأحوال والأقارب والحاجة وعدمها والأزمنة .
{ وَالْمِسْكِينَ } آته حقه من الزكاة ومن غيرها لتزول مسكنته { وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو الغريب المنقطع به عن بلده ، فيعطي الجميع من المال على وجه لا يضر المعطي ولا يكون زائدا على المقدار اللائق فإن ذلك تبذير قد نهى الله عنه وأخبر :
لما ذكر تعالى بر الوالدين ، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام ، كما تقدم في الحديث : " أمك وأباك ، ثم أدناك أدناك " وفي رواية : " ثم الأقرب فالأقرب " .
وفي الحديث : " من أحب أن يبسط له رزقه{[17427]} وينسأ له في أجله ، فليصل رحمه " {[17428]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عباد بن يعقوب ، حدثنا أبو يحيى التيمي{[17429]} حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال لما نزلت ، هذه الآية { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها " فدك " . ثم قال : لا نعلم حدث به عن فضيل بن مرزوق إلا أبو يحيى التيمي{[17430]} وحميد بن حماد بن أبي الخوار{[17431]} {[17432]} .
وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده ؛ لأن الآية مكية ، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة فكيف يلتئم هذا مع هذا ؟ !
وقد تقدم الكلام على المساكين وابن السبيل في " سورة براءة " بما أغنى عن إعادته هاهنا .
قوله [ تعالى ]{[17433]} { وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } لما أمر بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه ، بل يكون وسطًا ، كما قال في الآية الأخرى : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [ الفرقان : 67 ] .
القول في تأويل قوله تعالى { وَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً * إِنّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوَاْ إِخْوَانَ الشّيَاطِينِ وَكَانَ الشّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُوراً } .
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله وآتِ ذَا القُرْبى فقال بعضهم : عَنى به : قرابة الميت من قِبل أبيه وأمه ، أمرا الله جلّ ثناؤه عباده بصلتها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرانُ بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا حبيب المعلم ، قال : سأل رجل الحسن ، قال : أُعْطِي قرابتي زكاة مالي ، فقال : إن لهم في ذلك لحقا سوى الزكاة ، ثم تلا هذه الاَية وآت ذا القُرْبى حَقّهُ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله وآتِ ذَا القُرْبى حَقّهُ قال : صلته التي تريد أن تصله بها ما كنت تريد أن تفعله إليه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وآتِ ذَا القُرْبى حَقّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ قال : هو أن تصل ذا القربة والمسكين وتحسُن إلى ابن السبيل .
وقال آخرون : بل عنى به قرابه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، قال : حدثنا الصباح بن يحيى المَزنيّ ، عن السّديّ ، عن أبي الديلم ، قال : قال عليّ بن الحسين عليهما السلام لرجل من أهل الشام : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم ، قال : أفما قرأت في بني إسرائيل وآتِ ذَا القُرْبى حَقّهُ قال : وإنكم للقْرابة التي أمر الله جلّ ثناؤه أن يُؤتي حقه ؟ قال : نعم .
وأولى التأويلين عندي بالصواب ، تأويل من تأوّل ذلك أنها بمعنى وصية الله عباده بصلة قرابات أنفسهم وأرحامهم من قِبَل آبائهم وأمهاتهم ، وذلك أن الله عزّ وجلّ عَقّب ذلك عقيب حَضّه عباده على بر الاَباء والأمّهات ، فالواجب أن يكون ذلك حَضّا على صلة أنسابهم دون أنساب غيرهم التي لم يجر لها ذكر . وإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : وأعط يا محمد ذا قرابتك حقه من صلتك إياه ، وبرّك به ، والعطف عليه . وخرج ذلك مَخْرج الخطاب لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بحكمه جميع من لزمته فرائض الله ، يدلّ على ذلك ابتداؤه الوصية بقوله جلّ ثناؤه : وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما فوجّه الخطاب بقوله وَقَضَى رَبّكَ إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ فرجع بالخطاب به إلى الجميع ، ثم صرف الخطاب بقوله إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ إلى إفراده به . والمعنيّ بكل ذلك جميع من لزمته فرائض الله عزّ وجلّ ، أفرد بالخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ، أو عمّ به هو وجميع أمته .
وقوله : والمِسْكِينَ وهو الذلّة من أهل الحاجة . وقد دللنا فيما مضى على معنى المسكين بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقوله وَابْنَ السّبِيلِ يعني : المسافر المنقطع به ، يقول تعالى : وصِل قرابتك ، فأعطه حقه من صلتك إياه ، والمسكين ذا الحاجة ، والمجتاز بك المنقطع به ، فأعنه ، وقوّه على قطع سفره . وقد قيل : إنما عنى بالأمر بإتيان ابن السبيل حقه أن يضاف ثلاثة أيام .
والقول الأوّل عندي أولى بالصواب ، لأن الله تعالى لم يخصُصْ من حقوقه شيئا دون شيء في كتابه ، ولا على لسان رسوله ، فذلك عامّ في كلّ حقّ له أن يُعطاه من ضيافة أو حمولة أو مَعُونة على سفره .
وقوله وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا يقول : ولا تفرّق يا محمد ما أعطاك الله من مال في معصيته تفريقا . وأصل التبذير : التفريق في السّرَف ومنه قول الشاعر :
أُناسٌ أجارُونا فَكانَ جِوَارُهُمْ *** أعاصِيرَ مِنْ فِسْقِ العِرَاقِ المُبَذّرِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي العبيدين ، قال : قال عبد الله في قوله وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا قال : التبذير في غير الحقّ ، وهو الإسراف .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة ، عن مسلم البطين ، عن أبي العبيدين ، قال : سُئل عبد الله عن المبذّر فقال : الإنفاق في غير حقّ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سمعت يحيى بن الجزار يحدّث عن أبي العبُيدين ، ضرير البصر ، أنه سأل عبد الله بن مسعود عن هذه الاَية ولا تُبَذّرْ تَبْذِيرا قال : إنفاق المال في غير حقه .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العُبيدين ، عن عبد الله ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن يحيى بن الجزار أن أبا العبيدين ، كان ضرير البصر ، سأل ابن مسعود فقال : ما التبذير ؟ فقال : إنفاق المال في غير حقه .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا المسعودي ، قال : أخبرنا سلمة بن كُهيل ، عن أبي العُبيدين ، وكانت به زَمانة ، وكان عبد الله يعرف له ذلك ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، ما التبذير ؟ فذكر مثله .
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، قال : حدثنا أبو الحوءَب ، عن عمار بن زُريق ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مُضرِب ، عن أبي العُبيدين ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدّث أن التبذير : النفقة في غير حقه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن كثير العنبري ، قال : حدثنا شعبة ، قال : كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة ، فأتى على دار تُبنى بجصّ وآجر ، فقال : هذا التبذير في قول عبد الله : إنفاق المال في غير حقه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا قال : المبذّر : المنفق في غير حقه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عباد ، عن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : المبذّر : المنفق في غير حقه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : لا تنفق في الباطل ، فإن المبذّر : هو المسرف في غير حقّ .
قال ابن جريج وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحقّ ما كان تبذيرا ، ولو أنفق مدّا في باطل كان تبذيرا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا قال : التبذير : النفقة في معصية الله ، وفي غير الحقّ وفي الفساد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله وآتِ ذَا القُرْبَى حَقّهُ وَالمِسْكينَ وَابْنَ السّبِيلِ قال : بدأ بالوالدين قبل هذا ، فلما فرغ من الوالدين وحقهما ، ذكر هؤلاء وقال لا تُبَذّرْ تَبْذِيرا : لا تعطِ في معاصي الله .
اختلف المتأولون في «ذي القربى » ، فقال الجمهور : الآية وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم ، خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد الأمة ، وألحق في هذه الآية ما يتعين له من صلة الرحم وسد الخلة والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه ، قال بنحو هذا الحسن وعكرمة وابن عباس وغيرهم ، وقال علي بن الحسين في هذه : هم قرابة النبي عليه السلام ، أمر النبي عليه السلام بإعطائهم حقوقهم من بيت المال .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أبين ، ويعضده العطف ب { المسكين وابن السبيل } . { وابن السبيل } هنا يعم الغني والفقير إذ لكل واحد منهما حق وإن اختلفا ، «وابن السبيل » في آية الصدقة أخص .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والمسكين}، يعني: السائل، فتصدق عليه،
{و} حق {وابن السبيل} أن تحسن إليه، وهو الضيف نازل عليه،
{ولا تبذر تبذيرا}، يعني: المنفقين في غير حق...
585- ابن العربي: قال أشهب، عن مالك: التبذير هو منعه من حقه، ووضعه في غير حقه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله:"وآتِ ذَا القُرْبى"؛
فقال بعضهم: عَنى به: قرابة الميت من قِبل أبيه وأمه، أمر الله جلّ ثناؤه عباده بصلتها...
وقال آخرون: بل عنى به قرابه رسول الله صلى الله عليه وسلم...
وأولى التأويلين عندي بالصواب، تأويل من تأوّل ذلك أنها بمعنى وصية الله عباده بصلة قرابات أنفسهم وأرحامهم من قِبَل آبائهم وأمهاتهم، وذلك أن الله عزّ وجلّ عَقّب ذلك عقيب حَضّه عباده على بر الآباء والأمّهات، فالواجب أن يكون ذلك حَضّا على صلة أنسابهم دون أنساب غيرهم التي لم يجر لها ذكر. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وأعط يا محمد ذا قرابتك حقه من صلتك إياه، وبرّك به، والعطف عليه. وخرج ذلك مَخْرج الخطاب لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بحكمه جميع من لزمته فرائض الله، يدلّ على ذلك ابتداؤه الوصية بقوله جلّ ثناؤه: "وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما "فوجّه الخطاب بقوله "وَقَضَى رَبّكَ" إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال "ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ" فرجع بالخطاب به إلى الجميع، ثم صرف الخطاب بقوله: "إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ" إلى إفراده به. والمعنيّ بكل ذلك جميع من لزمته فرائض الله عزّ وجلّ، أفرد بالخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، أو عمّ به هو وجميع أمته.
وقوله: "والمِسْكِينَ" وهو الذلّة من أهل الحاجة...
وقوله: "وَابْنَ السّبِيلِ" يعني: المسافر المنقطع به، يقول تعالى: وصِل قرابتك، فأعطه حقه من صلتك إياه، والمسكين ذا الحاجة، والمجتاز بك المنقطع به، فأعنه، وقوّه على قطع سفره. وقد قيل: إنما عنى بالأمر بإتيان ابن السبيل حقه أن يضاف ثلاثة أيام.
والقول الأوّل عندي أولى بالصواب، لأن الله تعالى لم يخصُصْ من حقوقه شيئا دون شيء في كتابه، ولا على لسان رسوله، فذلك عامّ في كلّ حقّ له أن يُعطاه من ضيافة أو حمولة أو مَعُونة على سفره.
وقوله: "وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا" يقول: ولا تفرّق يا محمد ما أعطاك الله من مال في معصيته تفريقا. وأصل التبذير: التفريق في السّرَف ومنه...
[عن] عبد الله بن مسعود عن هذه الآية "ولا تُبَذّرْ تَبْذِيرا" قال: إنفاق المال في غير حقه... عن قتادة، قوله: "وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا" قال: التبذير: النفقة في معصية الله، وفي غير الحقّ وفي الفساد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} كأن الآية، هي صلة قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} (الإسراء: 33) أي وقضى أن تؤتي ذا القربى حقه ومن ذكر، أي فرض، وحتم، وحكم على اختلاف ما قالوا، وهو كقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى} الآية {النساء: 36) أمر صلى الله عليه وسلم ببر الوالدين والشكر لهما وصلة ذي القربى فريضة ومن ذكر. ثم اختلفوا في قوله: {حقه}:
قال بعضهم: ذلك الحق فريضة وهو الزكاة حين جعل ذلك صلة ما هو فرض، وهو الشكر لله وجعل العبادة له وشكر الوالدين جزاءا لما كان منهما إليه. وقد ذكرنا أن ذلك فرض لازم. فعلى ذلك صلة هؤلاء. إن صلتهم فريضة لما جاء من المواعيد الشديدة في قطع الرحم والترغيب في صلتهم.
ومنهم من قال: ذلك الحق نفل. ألا ترى أنه قال: {ولا تبذر تبذيرا} (وقال:) {ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء/ 29) وقال: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} (الإسراء: 28) فلا يحتمل ما ذكر من الإعراض {عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} في الفرض. دل أنه في النفل، والله أعلم.
{ولا تبذر تبذيرا} قال بعضهم: التبذير والإسراف واحد، وهو المجاوزة عن الحد الذي جعل في الإنفاق والحقوق، والمجاوزة عن المحق وغير المحق. روي عن ابن مسعود أنه سئل عن التبذير، فقال إنفاق المال في غير حقه. وكذلك قول ابن عباس رضي الله عنه.
وقال بعضهم: التبذير هو الإنفاق في ما لا ينتفع به. ويحتمل ما ذكرنا أنه يترك الإنفاق على المحق وهو ذو القربى، وينفق على الأجنبيين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إيتاءُ الحقِّ يكون من المال ومن النَّفْس ومن القول ومن الفعل، ومَنْ نَزَل على اقتضاء حقِّه، وبذل الكُلَّ لأجل ما طالبه به من حقوق. فهو القائم بما ألزمه الحقُّ سبحانه بأمره. والتبذيرُ مجاوزةُ الحدِّ عمَّا قدَّره الأمرُ والإذنُ.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَأَمَرَ [الله عز وجل] بِتَوْصِيلِ حَقِّهِ إلَيْهِ [يقصد ذا القربى] من صِلَةِ رَحِمٍ وَأَدَاءِ حَقٍّ من مِيرَاثٍ وَسِوَاهُ فَلَا يُبَدَّلُ فِيهِ، وَلَا يُغَيَّرُ عَنْ جِهَتِهِ بِتَوْلِيجِ وَصِيَّةٍ، أَوْ سِوَى ذَلِكَ من الدَّخْلِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولًا مُتَقَدِّمًا، أَوْ من طَرِيقِ الْأَوْلَى، من جِهَةِ أَنَّ الْآيَةَ لِلْقَرَابَةِ الْأَدْنَيْنَ الْمُخْتَصِّينَ بِالرَّجُلِ، فَأَمَّا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَبَانَ اللَّهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ حَقَّهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ هِيَ أَجْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هُدَاهُ لَنَا...
{وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}: وَلَهُمْ حَقَّانِ:
أَحَدُهُمَا: أَدَاءُ الزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي: الْحَقُّ الْمُفْتَرَضُ من الْحَاجَةِ عِنْدَ عَدَمِ الزَّكَاةِ، أَوْ فَنَائِهَا، أَوْ تَقْصِيرِهَا من عُمُومِ الْمُحْتَاجِينَ، وَأَخْذِ السُّلْطَانِ دُونَهُمْ...
{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}... وَهُوَ الْإِسْرَافُ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بِقَوْلِهِ: {إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} وَذَلِكَ نَصٌّ فِي التَّحْرِيمِ...
فإِنْ قِيلَ: فَمَنْ أَنْفَقَ فِي الشَّهَوَاتِ، هَلْ هُوَ مُبَذِّرٌ أَمْ لَا؟ قُلْنَا: مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الشَّهَوَاتِ زَائِدًا عَلَى الْحَاجَاتِ، وَعَرَّضَهُ بِذَلِكَ لَلنَّفَادِ فَهُوَ مُبَذِّر. وَمَنْ أَنْفَقَ رِبْحَ مَالِهِ فِي شَهَوَاتِهِ، أَوْ غَلَّتَهُ، وَحَفِظَ الْأَصْلَ أَوْ الرَّقَبَةَ، فَلَيْسَ بِمُبَذِّرٍ. وَمَنْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا فِي حَرَامٍ فَهُوَ مُبَذِّرٌ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي نَفَقَةِ دِرْهَمٍ فِي الْحَرَامِ، وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِبَذْلِهِ فِي الشَّهَوَاتِ، إلَّا إذَا خِيفَ عَلَيْهِ النَّفَادُ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
التبذير: بسط اليد في المال على حسب الهوى جزافاً، وأما الجود فبمقدار معلوم، لأنه اتباع أمر الله في الحقوق المالية، ومنها معلوم بحسب القدر، ومنها معلوم بحسب الوصف كمعاضدة أهل الملة وشكر أهل الإحسان إليك ونحو ذلك...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا} نهيٌ عن صرف المال إلى من سواهم ممن لا يستحقه فإن التبذيرَ تفريقٌ في غير موضعه مأخوذٌ من تفريق حباتٍ وإلقائِها كيفما كان من غير تعهّدٍ لمواقعه، لا عن الإكثار في صرفه إليهم وإلا لناسبه الإسرافُ الذي هو تجاوزُ الحدِّ في صرفه، وقد نُهي عنه بقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَبْسُطْهَا} وكلاهما مذموم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} من البر والإكرام الواجب والمسنون وذلك الحق يتفاوت بتفاوت الأحوال والأقارب والحاجة وعدمها والأزمنة.فيعطي الجميع من المال على وجه لا يضر المعطي ولا يكون زائدا على المقدار اللائق فإن ذلك تبذير قد نهى الله عنه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
القرآن يجعل لذي القربى والمسكين وابن السبيل حقا في الأعناق يوفى بالإنفاق. فليس هو تفضلا من أحد على أحد؛ إنما هو الحق الذي فرضه الله، ووصله بعبادته وتوحيده. الحق الذي يؤديه المكلف فيبريء ذمته، ويصل المودة بينه وبين من يعطيه، وإن هو إلا مؤد ما عليه لله.
وينهى القرآن عن التبذير. والتبذير -كما يفسره ابن مسعود وابن عباس- الإنفاق في غير حق. وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا، ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا.
فليست هي الكثرة والقلة في الإنفاق. إنما هو موضع الإنفاق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الخطاب لغير معين مثل قوله: {إما يبلغن عندك الكبر} [الإسراء: 23]. والعدول عن الخطاب بالجمع في قوله: {ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين} [الإسراء: 25] الآية إلى الخطاب بالإفراد بقوله: {وآت ذا القربى} تفنن لتجنب كراهة إعادة الصيغة الواحدة عدة مرات، والمخاطب غير معين فهو في معنى الجمع. والجملة معطوفة على جملة {ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] لأنها من جملة ما قضى الله به...
والإيتاء: الإعطاء. وهو حقيقة في إعطاء الأشياء، ومجاز شائع في التمكين من الأمور المعنوية كحسن المعاملة والنصرة... وإطلاق الإيتاء هنا صالح للمعنيين كما هي طريقة القرآن في توفير المعاني وإيجاز الألفاظ...
وقد بينت أدلّة شرعية حقوق ذي القربى ومراتبها: من واجبة مثل بعض النفقة على بعض القرابة مبينة شروطها عند الفقهاء، ومن غير واجبة مثل الإحسان...
والتعريف في {القربى} تعريف الجنس، أي القربى منك، وهو الذي يعبر عنه بأن (ال) عوض عن المضاف إليه... {ولا تبذر تبذيرا} لما ذكر البذل المحمود وكان ضده معروفاً عند العرب أعقبه بذكره للمناسبة. ولأن في الانكفاف عن البذل غير المحمود الذي هو التبذير استبقاء للمال الذي يفي بالبذل المأمور به، فالانكفاف عن هذا تيسير لذاك وعون عليه.
{وآت ذا القربى حقه}: (حقه) لأن الله تعالى جعله حقاً للأقارب إن كانوا في حاجة، وإلا فلو كانا غير محتاجين، فالعطاء بينهما هدية متبادلة، فكل قريب يهادي أقرباءه ويهادونه. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يشيع في المجتمع روح التكافل الاجتماعي... وكلمة (حق) وردت في القرآن على معنيين:
الأول: في قوله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم "24 "} (سورة الإسراء): والحق المعلوم هو الزكاة.
أما الحق الآخر فحق غير معلوم وغير موصوف، وهو التطوع والإحسان، حيث تتطوع لله بجنس ما فرضه عليك...
و (المسكين) هو الذي يملك وله مال، لكن لا يكفيه، بدليل قوله الحق سبحانه: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر.. "79 "} (سورة الكهف): أما الفقير فهو الذي لا يملك شيئاً، وقد يعكس البعض في تعريف المسكين والفقير، وهذا فهم خاطئ... وابن السبيل إذا طلب المساعدة لا تسأله عن حقيقة حاله، لأن له حقاً واجباً فلا تجعله في وضع مذلة أو حرج... فالحق سبحانه آثر التعبير عن الإسراف بلفظ (التبذير)؛ لأنه يضيع المال في غير موضعه المناسب، وينفق هكذا كلما اتفق دون نظام، فقد يعطي بسخاء في غير ما يلزم، في حين يمسك في الشيء الضروري. إذن: التبذير: صرف المال في غير حله، أو في غير حاجة، أو ضرورة... والنهي عن التبذير هنا قد يراد منه النهي عن التبذير في الإيتاء، يعني حينما تعطي حق الزكاة، فلا تأخذك الأريحية الإيمانية فتعطي أكثر مما يجب عليك... وقد يكون المعنى: أعط ذا القربى والمساكين وابن السبيل، ولكن لا تبذر في الأمور الأخرى، فالنهي هنا لا يعود إلى الإيتاء، بل إلى الأمور التافهة التي ينفق فيها المال في غير ضرورة...