{ 4 ْ } { إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ْ }
أي هذه البراءة التامة المطلقة من جميع المشركين . { إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ْ } واستمروا على عهدهم ، ولم يجر منهم ما يوجب النقض ، فلا نقصوكم شيئا ، ولا عاونوا عليكم أحدا ، فهؤلاء أتموا لهم{[362]} عهدهم إلى مدتهم ، قَلَّتْ ، أو كثرت ، لأن الإسلام لا يأمر بالخيانة وإنما يأمر بالوفاء .
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ْ } الذين أدوا ما أمروا به ، واتقوا الشرك والخيانة ، وغير ذلك من المعاصي .
هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر ، لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت ، فأجله ، أربعة أشهر ، يسيح في الأرض ، يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء ، إلا من له عهد مؤقت ، فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، وقد تقدمت الأحاديث : " ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته " وذلك بشرط ألا ينقض المعاهد عهده ، ولم يظاهر على المسلمين أحدا ، أي : يمالئ عليهم من سواهم ، فهذا الذي يوفى له بذمته وعهده{[13247]} إلى مدته ؛ ولهذا حرض{[13248]} الله تعالى على الوفاء بذلك فقال : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أي : الموفين بعهدهم .
{ إِلاّ الّذِينَ عَاهَدتّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمّوَاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىَ مُدّتِهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وأذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجّ الأكْبَرِ أنّ اللّهَ بَريءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ، إلاّ من عهد الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ أيها المؤمنون ، ثُمّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا من عهدكم الذي عاهدتموهم ، ولَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا من عدوّكم ، فيعينوهم بأنفسهم وأبدانهم ، ولا بسلاح ولا خيل ولا رجال . فأتِمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ يقول : قفوا لهم بعهدهم الذي عاهدتموهم عليه ، ولا تنصبوا لهم حربا إلى انقضاء أجل عهدهم الذي بينكم وبينهم . إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ يقول : إن الله يحبّ من اتقاه بطاعته بأداء فرائضه واجتناب معاصيه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فأتِمّوا إلَيْهِمْ عَهْدِهُمْ إلى مُدّتِهِمْ يقول : إلى أجلهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ : أي العهد الخاصّ إلى الأجل المسمى . ثُمّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا . . . الآية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إلاّ الّذَينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا ولَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا . . . الآية ، قال : هم مشركو قريش الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية . وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر ، فأمر الله نبيه أن يوفي لهم بعهدهم إلى مدتهم ، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرّم ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وأمره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأن لا يقبل منهم إلا ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : مدة من كان له عهد المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر من يوم أذن ببراءة إلى عشر من شهر ربيع الاَخر ، وذلك أربعة أشهر ، فإن نقض المشركون عهدهم وظاهروا عدوّا فلا عهد لهم ، وإن وفوا بعدهم الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يظاهروا عليه عدوّا ، فقد أمر أن يؤدي إليهم عهدهم ويفي به .
{ إلا الذين عاهدتم من المشركين } استثناء من المشركين ، أو استدراك فكأنه قيل لهم بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين ولكن الذين عاهدوا منهم . { ثم لم ينقصوكم شيئا } من شروط العهد ولم ينكثوه أو لم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط . { ولم يظاهروا عليكم أحدا } من أعدائكم { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } إلى تمام مدتهم ولا تجروهم مجرى الناكثين . { إن الله يحب المتقين } تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى .
استثناء من المشركين في قوله : { أن الله بريء من المشركين } [ التوبة : 3 ] ، ومن { الذين كفروا } في قوله : { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } [ التوبة : 3 ] لأنّ شأن الاستثناء إذا ورد عقب جمل أن يرجع إلى ما تحتويه جميعُها ممّا يصلح لِذلك الاستثناء ، فهو استثناء لهؤلاء : من حكم نقض العهد ، ومن حُكم الإنذار بالقتال ، المترتّببِ على النقض ، فهذا الفريق من المشركين باقون على حرمة عهدهم وعلى السلم معهم .
والموصول هنا يعمّ كلّ من تحقّقت فيه الصلة ، وقد بين مدلول الاستثناء قوله : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } .
وحرف ( ثم ) في قوله : { ثم لم ينقصوكم شيئاً } للتراخي الرتبي ، لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء ممّا عاهدوا عليه أهمّ من الوفاء بالأمور العظيمة ممّا عاهدوا عليه ، لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء نادر الحصول .
والنقصُ لِشيء إزالة بعضه ، والمراد : أنّهم لم يفرّطوا في شيء ممّا عاهدوا عليه . وفي هذا العطف إيذان بالتنويه بهذا الانتفاء لأنّ ( ثُمَّ ) إذا عطفت الجمل أفادت معنى التراخي في الرتبة ، أي بُعد مرتبة المعطوف من مرتبة المعطوف عليه ، بُعد كمال وارتفاع شأن . فإنّ من كمال العهد الحفاظ على الوفاء به .
وهؤلاء هم الذين احتفظوا بعهدهم مع المسلمين ، ووفّوا به على أتمّ وجه ، فلم يكيدوا المسلمين بكيد ، ولا ظاهروا عليهم عدّواً سِرًّا ، فهؤلاء أمِر المسلمون أن لا ينقضوا عهدهم إلى المدّة التي عوهدوا عليها . ومن هؤلاء : بنو ضَمره ، وحَيَّان من بني كنانة : هم بنو جذيمة ، وبنو الدِّيل . ولا شكّ أنّهم ممّن دخلوا في عهد الحديبية .
وقد علم من هذا : أنّ الذين أمَر الله بالبراءة من عهدهم هم ضدّ أولئك ، وهم قوم نقصُوا ممّا عاهدوا عليه ، أي كَادوا ، وغدروا سرّاً ، أو ظاهروا العدوّ بالمدد والجوسسة .
ومن هؤلاء : قريظة أمَدُّوا المشركين غير مرّة ، وبنو بَكر ، عَدَوْا على خزاعة أحلاف المسلمين كما تقدّم فعُبِّر عن فعلهم ذلك بالنقصصِ لأنّهم لم ينقضوا العهد علناً ، ولاَ أبطلوه ، ولكنهم أخلُّوا به ، ممّا استطاعوا أن يَكيدوا ويمكروا ، ولأنهم نقضوا بعض ما عاهدوا عليه .
وذكر كلمة { شيئاً } للمبالغة في نفي الانتقاص ، لأنّ كلمة « شيء » نكرة عامّة ، فإذا وقعت في سياق النفي أفادت انتفاء كلّ ما يصدق عليه أنّه موجود ، كما تقدّم في قوله تعالى : { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } في سورة البقرة ( 113 ) .
والمظاهرة : المعاونة ، يجوز أن يكون فعلها مشتقّاً من الاسم الجامد وهو الظهر ، أي صُلب الإنسان أو البعيرِ ، لأنّ الظهر به قوة الإنسان في المشي والتغلّب ، وبه قوة البعير في الرحلة والحمل ، يقال : بعير ظهير ، أي قوي على الرحلة ، مُثِّلَ المُعِين لأحدٍ على عمل بحال من يُعطيه ظهره يحمل عليه ، فكأنّه يعيره ظهره ويعيره الآخر ظهره ، فمن ثَمّ جاءت صيغة المفاعلة ، ومثله المعاضدة مشتقّة من العَضد ، والمساعدة من الساعد ، والتأييد من اليد ، والمكاتفة مشتقّة من الكتف ، وكلّها أعضاء العمل .
ويجوز أن يكون فعله مشتقّاً من الظهور ، وهو مصدر ضدّ الخفاء ، لأنّ المرء إذا انتصر على غيره ظهر حاله للناس ، فمُثِّل بالشيء الذي ظهر بعد خفاء ، ولذلك يعدى بحرف ( على ) للاستعلاء المجازي ، قال تعالى : { وإن تظاهرا عليه } [ التحريم : 4 ] وقال { كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّاً ولا ذمة } [ التوبة : 8 ] وقال { ليظهره على الدين كله } [ الفتح : 28 ] وقال { والملائكة بعد ذلك ظهير } [ التحريم : 4 ] أي معين .
والفاء في قوله : { فأتموا } تفريع على ما أفاده استثناء قوله : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً } إلخ ، وهو أنّهم لا تشملهم البراءة من العهد .
والمدّة : الأجل ، مشتقّة من المَدّ لأنّ الأجل مَدّ في زمن العمل ، أي تطويل ، ولذلك يقولون : مَاد القُوم غيرَهم ، إذا أجَّلوا الحربَ إلى أمد ، وإضافة المدّة إلى ضمير المعاهَدين لأنّها منعقدة معهم ، فإضافتها إليهم كإضافتها إلى المسلمين ، ولكن رجّح هنا جانبهم ، لأنّ انتفاعهم بالأجل أصبح أكثر من انتفاع المسلمين به ، إذ صار المسلمون أقوى منهم ، وأقدر على حربهم .
وجملة : { إن الله يحب المتقين } تذييل في معنى التعليل للأمر بإتمام العهد إلى الأجل بأنّ ذلك من التقوَى ، أي من امتثال الشرع الذي أمر الله به ، لأنّ الإخبار بمحبة الله المتّقين عقب الأمر كناية عن كون المأمور به من التقوى .
ثم إنّ قبائل العرب كلّها رغبت في الإسلام فأسلموا في تلك المدّة فانتهت حُرمة الأشهر الحرم في حكم الإسلام .