افتتحت السورة بقسمين معبرين عن وقتي النشاط والسكون . على أن الله ما ترك رسوله ولا كرهه ، وما يعده له في الآخرة من منازل الرفعة خير مما يكرمه به في الأولى ، ثم أقسم سبحانه على أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيعطي حتى يرضى ، والسوابق شواهد على اللواحق ، فقد كان يتيما فآواه ، وضالا فأحسن هداه ، وفقيرا فأغناه ، ثم دعت الآيات إلى إكرام اليتيم ، وعدم نهر السائل ، وإلى التحدث بنعمة الله .
{ 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }
أقسم تعالى بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى .
وبالليل إذا سجى وادلهمت ظلمته ، على اعتناء الله برسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ }
روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بَزةَ المقرئ قال : قرأت على عكرمة بن سليمان ، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عبَّاد ، فلما بلغت " وَالضُّحَى " قالا لي : كَبِّر حتى تختم مع خاتمة كل سورة ، فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك . وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك . وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك ، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك ، وأخبره أبي أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك{[1]} .
فهذه سُنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي ، من ولد القاسم بن أبي بزة ، وكان إمامًا في القراءات ، فأما في الحديث فقد ضَعَّفَه أبو حاتم الرازي وقال : لا أحدث عنه ، وكذلك أبو جعفر العقيلي قال : هو منكر الحديث . لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في شرح الشاطبية عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة ، فقال له : أحسنت وأصبت السنة . وهذا يقتضي صحة هذا الحديث .
ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته ، فقال بعضهم : يكبر من آخر " وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى " وقال آخرون : من آخر " وَالضُّحَى " وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول : الله أكبر ويقتصر ، ومنهم من يقول الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر .
وذكر الفراء في مناسبة التكبير من أول سورة " الضحى " : أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة [ ثم ]{[2]} جاءه الملك فأوحى إليه : " وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى " السورة بتمامها ، كبر فرحًا وسرورًا . ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف ، فالله أعلم{[3]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس قال : سمعت جُنْدُبا يقول : اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتت امرأة فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك . فأنزل الله عز وجل : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }{[30173]} .
رواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، من طرق ، عن الأسود بن قيس ، عن جُنْدُب - هو ابن عبد الله البَجلي ثم العَلقي{[30174]} به{[30175]} وفي رواية سفيان بن عيينة عن الأسود بن قيس : سمع جندبًا قال : أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : وُدِّع محمد . فأنزل الله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }{[30176]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله{[30177]} الأودي قالا حدثنا أبو أسامة ، حدثني سفيان ، حدثني الأسود بن قيس ، أنه سمع جندبًا يقول : رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في أصبعه فقال :
هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت
قال : فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم ، فقالت له امرأة : ما أرى شيطانك إلا قد تركتك{[30178]} فنزلت : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } والسياق لأبي سعيد .
قيل : إن هذه المرأة هي : أم جميل امرأة أبي لهب ، وذكر أن إصبعه ، عليه السلام ، دميت . وقوله - هذا الكلام الذي اتفق أنه موزون - ثابت في الصحيحين{[30179]} ولكن الغريب هاهنا جعله سببًا لتركه القيام ، ونزول هذه السورة . فأما ما رواه ابن جرير :
حدثنا ابن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، عن عبد الله ابن شداد : أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أرى ربك إلا قد قلاك . فأنزل الله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }
وقال أيضا : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه قال : أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فجزع جزعًا شديدًا ، فقالت خديجة : إني أرى ربك قد قلاك مما نَرى من جزعك . قال : فنزلت : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } إلى آخرها{[30180]} .
فإنه حديث مرسل من [ هذين الوجهين ]{[30181]} ولعل ذكر خديجة ليس محفوظًا ، أو قالته على وجه التأسف والتحزن ، والله أعلم .
وقد ذكر بعض السلف - منهم ابن إسحاق - أن هذه السورة هي التي أوحاها جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين تبدى له في صورته التي خلقه الله عليها ، ودنا إليه وتدلى منهبطًا عليه وهو بالأبطح ، { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم : 10 ] . قال : قال له هذه السورة : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }
قال العوفي ، عن ابن عباس : لما نزلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، أبطأ عنه جبريل أياما ، فتغير بذلك ، فقال المشركون : ودعه ربه وقلاه . فأنزل الله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالضّحَىَ * وَاللّيْلِ إِذَا سَجَىَ * مَا وَدّعَكَ رَبّكَ وَمَا قَلَىَ * وَلَلاَخِرَةُ خَيْرٌ لّكَ مِنَ الاُولَىَ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَتَرْضَىَ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىَ * وَوَجَدَكَ ضَآلاّ فَهَدَىَ * وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىَ } .
أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالضحى ، وهو النهار كله ، وأحسب أنه من قولهم : ضَحِىَ فلان للشمس : إذا ظهر منه ومنه قوله : وَأنّكَ لا تَظْمأُ فِيها وَلا تَضْحَى : أي لا يصيبك فيها الشمس .
وقد ذكرت اختلاف أهل العلم في معناه ، في قوله : والشّمْسِ وَضُحاها مع ذكري اختيارنا فيه . وقيل : عُني به وقت الضحى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة والضّحَى ساعة من ساعات النهار .