والتعقيب يعمق هذه اللمسة ويقوي وقعها ؛ وهو يصور الأرض تأكل منهم شيئا فشيئا :
( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ، وعندنا كتاب حفيظ ) . .
لكأنما التعبير يجسم حركة الأرض ويحييها وهي تذيب أجسادهم المغيبة فيها ، وتأكلها رويدا رويدا . ويصور أجسادهم وهي تتآكل باطراد وتبلى . ليقول : إن الله يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم ، وهو مسجل في كتاب حفيظ ؛ فهم لا يذهبون ضياعا إذا ماتوا وكانوا ترابا . أما إعادة الحياة إلى هذا التراب ، فقد حدثت من قبل ، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي .
وهكذا تتوالى اللمسات التي تذيب القلوب وترققها ، وتدعها حساسة متوفزة جيدة الاستقبال . وذلك قبل البدء في الهجوم على القضية ذاتها !
ردٌّ لقولهم : { ذلك رجع بعيد } [ ق : 3 ] فإن إحالتهم البعث ناشئة عن عدة شبه منها : أن تفرق أجزاء الأجساد في مناحِي الأرض ومهابّ الرياح لا تُبقي أملا في إمكان جمعها إذ لا يحيط بها محيط وأنها لو علمت مواقعها لتعذر التقاطها وجمعها ، ولو جمعت كيف تعود إلى صورها التي كانت مشكَّلة بها ، وأنها لو عادت كيف تعود إليها ، فاقتصر في إقلاع شبههم على إقلاع أصلها وهو عدم العلم بمواقع تلك الأجزاء وذرّاتها .
وفُصِلت الجملة بدون عطف لأنها ابتداء كلام لرد كلامهم ، وهذا هو الأليق بنظم الكلام . وقيل هي جواب القسم كما علمته آنفا وأيًّا مَّا كان فهو رد لقولهم { ذلك رجع بعيد } .
والمعنى : أن جمع أجزاء الأجسام ممكن لا يعزب عن علم الله ، وإذا كان عالماً بتلك الأجزاء كما هو مقتضى عموم العلم الإلهي وكان قد أراد إحياء أصحابها كما أخبر به ، فلا يعظم على قدرته جمعها وتركيبها أجساماً كأجسام أصحابها حين فارقوا الحياة فقوله : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } إيماء إلى دليل الإمكان لأن مرجعه إلى عموم العلم كما قلنا . فأساس مبنى الرد هو عموم علم الله تعالى لأن يجمع إبطال الاحتمالات التي تنشأ عن شبهتهم فلو قال ، نحن قادرون على إرجاع ما تنقص الأرض منهم لخطر في وساوس نفوسهم شبهة أن الله وإن سلمنا أنه قادر فإن أجزاء الأجساد إذا تفرقت لا يعلمها الله حتى تتسلط على جمعها قدرتُه فكان البناء على عموم العلم أقطع لاحتمالاتهم .
واعلم أن هذا الكلام بيان للإمكان رعيا لما تضمنه كلامهم من الإحالة لأن ثبوت الإمكان يَقلع اعتقاد الاستحالة من نفوسهم وهو كاف لإبطال تكذيبهم ولاستدعائهم للنظر في الدعوة ، ثم يبقى النظر في كيفية الإعادة ، وهي أمر لم نكلف بالبحث عنه وقد اختلف فيها أيمة أهل السنة فقال جمهور أهل السنة والمعتزلة تعاد الأجسام بعد عدمها . ومعنى إعادتها . إعادة أمثالها بأن يخلق الله أجساداً مثل الأولى تودع فيها الأرواح التي كانت في الدنيا حالّة في الأجساد المعدومة الآن فيصير ذلك الجسم لصاحب الروح في الدنيا وبذلك يحق أن يقال : إن هذا هو فلان الذي عرفناه في الدنيا إذ الإنسان كان إنساناً بالعقل والنطق ، وهما مَظهر الروح . وأما الجسد فإنه يتغير بتغيرات كثيرة ابتداء من وقت كونه جنينا ، ثم من وقت الطفولة ثم ما بعدها من الأطوَار فتخلف أجزاؤُه المتجددة أجزاءَه المتقضيّة ، وبرهان ذلك مبيّن في علم الطّبيعيات ، لكن ذلك التغير لم يمنع من اعتبار الذات ذاتا واحدة لأن هُوية الذات حاصلة من الحقيقة النوعية والمشخصات المشاهدة التي تتجدد بدون شعور مَن يشاهدها . فلذا كانت حقيقة الشخص هي الروح وهي التي تُكتسَى عند البعث جسد صاحبها في الدنيا ، فإن الناس الذين يموتون قبل قيام الساعة بزمن قليل لا تَبلى في مثله أجسامهم تُرجَّع أرواحهم إلى أجسادهم الباقية دون تجديدِ خلقها ، ولذلك فتسمية هذا الإيجاد معاداً أو رجْعاً أو بعثاً إنما هي تسمية باعتبار حال الأرواح ، وبهذا الاعتبار أيضاً تشهد على الكفار ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون لأن الشاهد في الحقيقية هو ما به إدراك الأعمال من الروح المبثوثة في الأعضاء .
وأدلة الكتاب أكثرها ظاهر في تأييد هذا الرأي كقوله تعالى : { كما بدأنا أول خلق نعيده } [ الأنبياء : 104 ] ، وفي معناه قوله تعالى : { كُلّما نضِجت جلودهم بدّلْنَاهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } [ النساء : 56 ] .
وقال شذوذ : تُعاد الأجسام بجمع الأجزاء المتفرقة يجمعها الله العليم بها ويركبها كما كانت يوم الوفاة . وهذا بعيد لأن أجزاء الجسم الإنساني إذا تفرقت دخلت في أجزاء من أجسام أخرى من مختلف الموجودات ومنها أجسام أناس آخرين . وورد في الآثار " أن كل ابن آدم يفنى إلاّ عجْب الذنب منه خُلق ومنهُ يركب " رواه مسلم . وعلى هذا تكون نسبة الأجساد المعادة كنسبة النخلة من النواة . وهذا واسطة بين القول بأن الإعادة عن عدم والقول بأنها عن تفرق . ولا قائل من العقلاء بأن المعدوم يعاد بعينه وإنما المراد ما ذكرنا وما عداه مجازفة في التعبير .
وذكر الجلال الدواني في « شرح العقيدة العضدية » أن أبَيَّ بن خلف لما سمع ما في القرآن من الإعادة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عظم قد رمَّ ففتته بيده وقال : يا محمد أتُرَى يحييني بعد أن أصير كهذا العظم ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " نعم ويبعثك ويدخلك النار " . وفيه نزل قوله تعالى : { وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يُحْيي العظام وهي رميم } [ يس : 78 ] .
وعُبر ب { تنقص الأرض } دون التعبير بالإعدام لأن للأجساد درجات من الاضمحلال تَدخل تحت حقيقة النقص فقد يفنى بعض أجزاء الجسد ويبقى بعضه ، وقد يأتي الفناء على جميع أجزائه ، على أنه إذا صح أن عَجْب الذنب لا يفني كان فناء الأجساد نقصاً لا انعداماً .
وعطف على قوله : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } قوله : { وعندنا كتاب حفيظ } عطف الأعم على الأخص ، وهو بمعنى تذييل لجملة { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } أي وعندنا علمٌ بكل شيء علماً ثابتاً فتنكير { كتاب } للتعظيم ، وهو تعظيم التعميم ، أي عندنا كتاب كل شيء .
و { حفيظ } فعيل : إما بمعنى فاعل ، أي حافظ لما جعل لإحصائه من أسماء الذوات ومصائرها . وتعيين جميع الأرواح لذواتها التي كانت مودعَة فيها بحيث لا يفوت واحد منها عن الملائكة الموكلين بالبعث وإعادة الأجساد وبث الأرواح فيها . وإمّا بمعنى مفعول ، أي محفوظ ما فيه مما قد يعتري الكتب المألوفة من المحو والتغيير والزيادة والتشطيب ونحو ذلك .
والكتاب : المكتوب ، ويطلق على مجموع الصحائف . ثم يجوز أن يكون الكتاب حقيقة بأن جعل الله كتباً وأودعها إلى ملائكة يسجّلون فيها الناس حين وفياتهم ومواضع أجسادهم ومقارّ أرواحهم وانتساب كل روح إلى جسدها المعيّن الذي كانت حالّة فيه حال الحياة الدنيا صادقاً بكتب عديدة لكل إنسان كتابُه ، وتكون مثل صحائف الأعمال الذي جاء فيه قوله تعالى : { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ ق : 17 ، 18 ] ، وقوله : { ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفَى بنفسك اليوم عليك حسيبا } [ الإسراء : 13 ، 14 ] . ويجوز أن يكون مجموع قوله : { وعندنا كتاب } تمثيلاً لعلم الله تعالى بحال علم من عنده كتاب حفيظ يعلم به جميع أعمال الناس .
والعندية في قوله : { وعندنا كتاب } مستعارة للحياطة والحفظ من أن يتطرق إليه ما يغيّر ما فيه أو من يبطل ما عيّن له .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله تعالى: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} يقول: ما أكلت من الموتى من لحوم، وعروق، وعظام بني آدم، ما خلا العصعص... {وعندنا كتاب حفيظ} يعني محفوظ من الشياطين، يعني اللوح المحفوظ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمُ "يقول تعالى ذكره: قد علمنا ما تأكل الأرض من أجسامهم بعد مماتهم، وعندنا كتاب بما تأكل الأرض وتفني من أجسامهم، ولهم كتاب مكتوب مع علمنا بذلك، حافظ لذلك كله، وسماه الله تعالى حفيظا، لأنه لا يدرس ما كتب فيه، ولا يتغير ولا يتبدل... عن قتادة "قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ" قال: يعني الموت، يقول: من يموت منهم، أو قال: ما تأكل الأرض منهم إذا ماتوا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... أهل التأويل بأجمعهم صرفوا هذا القول إلى الله تعالى أنه قال ذلك جوابا لقولهم: {أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجعٌ بعيد} فقال: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} أي عن علم منا بما أكل منكم، وينقصُ، قلنا: إنكم تُبعثون، وتُحيوَن، على علم منا، بذلك أخبركم الرسل بالإحياء والبعث بعد الموت والله أعلم... وقوله تعالى: {وعندنا كتاب حفيظ} أي عندنا كتاب يحفظ أحوالهم وأفعالهم وجميع ما يكون منهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَدْ عَلِمْنَا} ردّ لاستبعادهم الرجع، لأن من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم، كان قادراً على رجعهم أحياء كما كانوا.
{قد علمنا ما تنقص الأرض} يعني لا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في تخوم الأرضين، وهذا جواب لما كانوا يقولون {أءذا ضللنا في الأرض} يعني أن ذلك إشارة إلى أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم من ظلمهم، وتعديهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون، ويحتمل أن يقال معنى قوله تعالى: {وعندنا كتاب حفيظ} هو أنه عالم بتفاصيل الأشياء...
{وعندنا كتاب حفيظ} يعني العلم عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءا جزءا وشيئا شيئا، والحفيظ يحتمل أن يكون بمعنى المحفوظ، أي محفوظ من التغيير والتبديل، ويحتمل أن يكون بمعنى الحافظ، أي حافظ أجزاءهم وأعمالهم بحيث لا ينسى شيئا منها، والثاني هو الأصح لوجهين (أحدهما) أن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن، قال تعالى: {وما أنا عليكم بحفيظ} وقال تعالى: {والله حفيظ عليهم} ولأن الكتاب على ما ذكرنا للتمثيل فهو يحفظ الأشياء، وهو مستغن عن أن يحفظ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قد} أي بل نحن على ذلك في غاية القدرة لأنا قد {علمنا} بما لنا من العظمة {ما تنقص الأرض منهم} أي من أجزائهم المتحللة من أبدانهم بعد الموت وقبله...
.ولكنه عبر بما لأن الأرض لا تأكل عجب الذنب، فإنه كالبزر لأجسام بني آدم. ولما كانت العادة جارية عند جميع الناس بأن ما كتب حفظ، أجرى الأمر على ما جرت به عوائدهم، فقال مشيراً بنون العظمة إلى غناه عن الكتاب: {وعندنا} أي على ما لنا من الجلال الغني عن كل شيء {كتاب} أي جامع لكل شيء {حفيظ} أي بالغ في الحفظ لا يشذ عنه شيء من الأشياء دق أو جل، فكيف يستبعدون على عظمتنا أن لا نقدر على تمييز ترابهم من تراب الأرض ولم يختلط في علمنا شيء من جزء منه بشيء من جزء آخر فضلاً عن أن يختلط شيء منه بشيء آخر من تراب الأرض- أو غيرها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الله يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم، وهو مسجل في كتاب حفيظ؛ فهم لا يذهبون ضياعا إذا ماتوا وكانوا ترابا. أما إعادة الحياة إلى هذا التراب، فقد حدثت من قبل، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي. وهكذا تتوالى اللمسات التي تذيب القلوب وترققها، وتدعها حساسة متوفزة جيدة الاستقبال. وذلك قبل البدء في الهجوم على القضية ذاتها!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} إيماء إلى دليل الإمكان لأن مرجعه إلى عموم العلم كما قلنا. فأساس مبنى الرد هو عموم علم الله تعالى لأن يجمع إبطال الاحتمالات التي تنشأ عن شبهتهم فلو قال، نحن قادرون على إرجاع ما تنقص الأرض منهم لخطر في وساوس نفوسهم شبهة أن الله وإن سلمنا أنه قادر فإن أجزاء الأجساد إذا تفرقت لا يعلمها الله حتى تتسلط على جمعها قدرتُه، فكان البناء على عموم العلم أقطع لاحتمالاتهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إذا كان إشكالكم هو أنّه كيف تجتمع عظام الإنسان النخرة ولحمه الذي صار تراباً وذرّاته التي تبدلّت إلى بخار وغازات متفرّقة في الهواء، ومن يجمعها؟! أو من يعرف عنها شيئاً؟! فجواب ذلك معلوم.. فالله الذي أحاط بكلّ شيء علماً يعرف جميع هذه الذرّات ويجمعها متى شاء، كما أنّ ذرّات الحديد المتناثرة في تلّ من الرمل يمكن جمعها بقطعة من «المغناطيس» فكذلك جمع ذرّات الإنسان أيسر على الله من ذلك...