وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الذي يدعو إليه محمد هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ قالوه على وجه الجزم منهم بباطلهم ، والجهل بما ينبغي من الخطاب .
فلو أنهم إذ أقاموا على باطلهم من الشبه والتمويهات ما أوجب لهم أن يكونوا على بصيرة ويقين منه ، قالوا لمن ناظرهم وادعى أن الحق معه : إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ، لكان أولى لهم وأستر لظلمهم .
فمنذ قالوا : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية ، علم بمجرد قولهم أنهم السفهاء الأغبياء ، الجهلة الظالمون ، فلو عاجلهم اللّه بالعقاب لما أبقى منهم باقية ، ولكنه تعالى دفع عنهم العذاب بسبب وجود الرسول بين أظهرهم ، فقال : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ فوجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم أمنة لهم من العذاب .
وكانوا مع قولهم هذه المقالة التي يظهرونها على رءوس الأشهاد ، يدرون بقبحها ، فكانوا يخافون من وقوعها فيهم ، فيستغفرون اللّه [ تعالى فلهذا ] قال تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فهذا مانع يمنع من وقوع العذاب بهم ، بعد ما انعقدت أسبابه .
ويعقب السياق على هذا العناد ، وعلى هذا الادعاء ، بأنهم مع استحقاقهم لإمطار الحجارة عليهم من السماء وللعذاب الأليم الذي طلبوه - إن كان هذا هو الحق من عنده - وإنه للحق . . مع هذا فإن الله قد أمسك عنهم عذاب الاستئصال الذي أخذ به المكذبين قبلهم . لأن رسول الله [ ص ] بينهم ، ولا يزال يدعوهم إلى الهدى . والله لا يعذبهم عذاب الاستئصال والرسول فيهم . كما أنه لا يعذبهم هذا العذاب على معاصيهم إذا كانوا يستغفرون منها ؛ وليس تأخير العذاب عنهم لمجرد أنهم أهل هذا البيت . فهم ليسوا بأولياء هذا البيت إنما أولياؤه المتقون :
( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ، وما كانوا أولياءه ، إن أولياؤه إلا المتقون ، ولكن أكثرهم لا يعلمون . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية . فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . .
إنها رحمة الله تمهلهم فلا يأخذهم الله بعنادهم ؛ ولا يأخذهم بصدهم عن المسجد الحرام - وقد كانوا يمنعون المسلمين أن يحجوا إليه ، وهم لا يمنعون أحداً ولا يهيجونه عنه !
إنها رحمة الله تمهلهم عسى أن يستجيب للهدى منهم من تخالط بشاشة الإيمان قلبه - ولو بعد حين - وما دام الرسول [ ص ] بينهم ، يدعوهم ، فهنالك توقع لاستجابة البعض منهم ؛ فهم إكراماً لوجود رسول الله بينهم يمهلون . والطريق أمامهم لاتقاء عذاب الاستئصال دائماً مفتوح إذا هم استجابوا واستغفروا عما فرط منهم وأنابوا :
( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) . .
قالت فرقة : نزلت هذه الآية كلها بمكة ، وقالت فرقة : نزلت كلها بعد وقعة بدر حكاية عما مضى ، وقال ابن أبزى{[5314]} : نزل قوله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } بمكة إثر قولهم { أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] ونزل قوله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة في طريقه إلى المدينة ، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ، ونزل قوله { وما لهم } إلى آخر الآية بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم .
قال القاضي أبو محمد : وأجمع المتأولون على أن معنى قوله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها ، فما كان ليعذب هذه وأنت فيهم ، بل كرامتك لديه أعظم ، قال : أراه عن أبي زيد{[5315]} سمعت من العرب من يقول «ما كان ليعذبهم » بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن ، واختلفوا في معنى قوله { وما كان الله معذبهم وهم مستغفرون } فقال ابن عباس وابن أبزى وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه : إن الضمير في قوله { معذبهم } يعود على كفار مكة والضمير في قوله { وهم } عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون .
قال القاضي أبو محمد : ويدفع في صدر هذا القول أن المؤمنين الذين رد الضمير عليهم لم يجر لهم ذكر ، وقال ابن عباس أيضاً ما مقتضاه : أن يقال الضميران عائدان على الكفار ، وذلك أنهم كانوا يقولون في دعائهم غفرانك ، ويقولون لبيك لا شريك لك ، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار ، فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا ، وعلى هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إن الله جعل من عذاب الدنيا َأَمَنَتْين : كون الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس والاستغفار ، فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة{[5316]} ، وقال قتادة : الضمير للكفار ، وقوله { وهم يستغفرون } ، جملة في موضع الحال أن لو كانت ، فالمعنى وما كان الله معذبهم وهو بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع ذلك منهم ، واختاره الطبري ، ثم حسن الزجر والتوقيف بعد هذا بقوله { وما لهم ألا يعذبهم الله } وقال الزجّاج ما معناه ، إن الضمير في قوله { وهم } عائد على الكفار .
والمراد به : سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر ، فالمعنى : وما كان الله ليعذب الكفار وفيهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال ، وحكاه الطبري عن ابن عباس .
وقال مجاهد في كتاب الزهراوي : المراد بقوله { وهم يستغفرون } ذرية المشركين يومئذ الذين سبق لهم في علم الله أن يكونوا مؤمنين ، فالمعنى : وما كان الله ليعذبهم وذريتهم يستغفرون ويؤمنون ، فنسب الاستغفار إليهم ، إذ ذريتهم منهم ، وذكره مكي ولم ينسبه ، وفي الطبري عن فرقة أن معنى { يستغفرون } يصلون ، وعن أخرى يسلمون ونحو هذا من الأقوال التي تتقارب مع قول قتادة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.