{ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ْ } أي : من فضله وإحسانه عليَّ ، وهذه حال الخلفاء الصالحين ، إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة ، ازداد شكرهم وإقرارهم ، واعترافهم بنعمة الله كما قال سليمان عليه السلام ، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم ، قال : { هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ْ } بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض فإن النعم الكبار ، تزيدهم أشرا وبطرا .
كما قال قارون -لما آتاه الله من الكنوز ، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة- قال : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ْ }
وقوله : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي ْ } أي : لخروج يأجوج ومأجوج { جَعَلَهُ ْ } أي : ذلك السد المحكم المتقن { دَكَّاءَ ْ } أي : دكه فانهدم ، واستوى هو والأرض { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّاْ } .
ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به ، فلم يأخذه البطر والغرور ، ولم تسكره نشوة القوة والعلم . ولكنه ذكر الله فشكره . ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه . وتبرأ من قوته إلى قوة الله ، وفوض إليه الأمر ، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة ، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا .
( قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء . وكان وعد ربي حقا ) . .
وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين . النموذج الطيب للحاكم الصالح ، يمكنه الله في الأرض ، وييسر له الأسباب ؛ فيجتاح الأرض شرقا وغربا ؛ ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر ، ولا يطغى ولا يتبطر ، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي ، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان ، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق ؛ ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه . . إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به ، ويساعد المتخلفين ، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل ؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح ، ودفع العدوان وإحقاق الحق . ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله ، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته ، وأنه راجع إلى الله .
وبعد فمن يأجوج ومأجوج ? وأين هم الآن ? وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون !
كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق ، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن ، وفي بعض الأثر الصحيح .
والقرآن يذكر في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين : ( فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ، وكان وعد ربي حقا ) .
وهذا النص لا يحدد زمانا . ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار ، وانساحوا في الأرض ، ودمروا الممالك تدميرا .
وفي موضع آخر في سورة الأنبياء : ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون . واقترب الوعد الحق . . . ) .
وهذا النص كذلك لا يحدد زمانا معينا لخروج يأجوج ومأجوج فاقتراب الوعد الحق بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول [ ص ] فجاء في القرآن : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) والزمان في الحساب الإلهي غيره في حساب البشر . فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون ، يراها البشر طويلة مديدة ، وهي عند الله ومضة قصيرة .
وإذن فمن الجائز أن يكون السد قد فتح في الفترة ما بين : ( اقتربت الساعة ) ويومنا هذا . وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج .
وهناك حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان ، عن أمها حبيبة ، عن زينب بنت جحش - زوج النبي [ ص ] - قالت : استيقظ الرسول [ ص ] من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول : " ويل للعرب من شر قد اقترب . فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " وحلق [ بإصبعيه السبابة والإبهام ] . قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ? قال " نعم إذا كثر الخبيث " .
وقد كانت هذه الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن . وقد وقعت غارات التتار بعدها ، ودمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين . وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول [ ص ] وعلم ذلك عند الله . وكل ما نقوله ترجيح لا يقين .
وقوله : { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي : لما بناه ذو القرنين { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي : بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث{[18531]} في الأرض والفساد . { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } أي : إذا اقترب الوعد الحق { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } أي : ساواه{[18532]} بالأرض . تقول العرب : ناقة دكاء : إذا كان ظهرها مستويًا لا سنام لها . وقال تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } [ الأعراف : 143 ] أي : مساويًا للأرض{[18533]} .
وقال عكرمة في قوله : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ } قال : طريقًا كما كان .
وقوله { هذا رحمة } الآية القائل : ذو القرنين ، وأشار بهذا إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به ، وقرأ ابن أبي عبلة » هذه رحمة « ، و » الوعد « : يحتمل أن يريد به يوم القيامة ، ويحتمل أن يريد به وقت خروج يأجوج ومأجوج ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر » دكاً «مصدر دك يدك إذا هدم ورض ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي » دكاء «بالمد ، وهذا على التشبيه بالناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها ، وفي الكلام حذف تقديره جعله مثل دكاء ، وأما النصب في { دكاً } فيحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً ل » جعل « ، ويحتمل أن يكون » جعل «بمعنى خلق ، وينصب { دكاً } على الحال ، وكذلك أيضاً النصب في قراءة من مد يحتمل الوجهين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.