ثم قال تعالى : { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ } وهذا يشمل كل خير قوليّ وفعليّ ، ظاهر وباطن ، من واجب ومستحب .
{ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ } أي : عمن ساءكم في أبدانكم وأموالكم وأعراضكم ، فتسمحوا عنه ، فإن الجزاء من جنس العمل . فمن عفا لله عفا الله عنه ، ومن أحسن أحسن الله إليه ، فلهذا قال : { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } أي : يعفو عن زلات عباده وذنوبهم العظيمة فيسدل عليهم ستره ، ثم يعاملهم بعفوه التام الصادر عن قدرته .
وفي هذه الآية إرشاد إلى التفقه في معاني أسماء الله وصفاته ، وأن الخلق والأمر صادر عنها ، وهي مقتضية له ، ولهذا يعلل الأحكام بالأسماء الحسنى ، كما في هذه الآية .
لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء رتب على ذلك ، بأن أحالنا على معرفة أسمائه وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص .
ثم لا يقف السياق القرآني عند الحد السلبي في النهي عن الجهر بالسوء ؛ إنما يوجه إلى الخير الإيجابي عامة ؛ ويوجه إلى العفو عن السوء ؛ ويلوح بصفة الله سبحانه في العفو وهو قادر على الأخذ ، ليتخلق المؤمنون بأخلاق الله سبحانه فيما يملكون وما يستطيعون :
( إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء ، فإن الله كان عفوا قديرًا ) . .
وهكذا يرتفع المنهج التربوي بالنفس المؤمنة والجماعة المسلمة درجة أخرى . . في أول درجة يحدثهم عن كراهة الله - سبحانه - للجهر بالسوء . ويرخص لمن وقع عليه الظلم أن ينتصف أو يطلب النصف ، بالجهر بالسوء فيمن ظلمه ، ومما وقع عليه من الظلم . . وفي الدرجة الثانية يرتفع بهم جيمعا إلى فعل الخير ؛ ويرتفع بالنفس التي ظلمت - وهي تملك أن تنتصف من الظلم بالجهر - أن تعفو وتصفح - عن مقدرة فلا عفو بغير مقدرة - فيرتفع على الرغبة في الانتصاف إلى الرغبة في السماحة ؛ وهي أرفع وأصفى . .
عندئذ يشيع الخير في المجتمع المسلم إذا أبدوه . ويؤدي دوره في تربية النفوس وتزكيتها إذا أخفوه - فالخير طيب في السر طيب في العلن - وعندئذ يشيع العفو بين الناس ، فلا يكون للجهر بالسوء مجال . على أن يكون عفو القادر الذي يصدر عن سماحة النفس لا عن مذلة العجز ؛ وعلى أن يكون تخلقا بأخلاق الله ، الذي يقدر ويعفو :
بعد ذلك يأخذ السياق في جولة مع ( الذين أوتوا الكتاب ) بصفة عامة ! ثم ينتقل منها إلى اليهود في شوط ، وإلى النصارى في الشوط الآخر . . واليهود يجهرون بالسوء - إفكا وبهتانا - على مريم وعلى عيسى - ويأتي ذكر هذا الجهر في ثنايا الجولة ؛ فترتبط هذه الجولة بذلك البيان الذي تتضمنة الآيتان السابقتان في السياق .
والجولة كلها طرف من المعركة التي خاضها القرآن مع أعداء الجماعة المسلمة في المدينة . والتي سلفت منها في هذه السورة وفي سورتي البقرة وآل عمران أطراف أخرى . .
وقوله : { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } أي : إن تظهروا - أيها الناس - خيرًا ، أو أخفيتموه ، أو عفوتم عمن أساء إليكم ، فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه ، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم . ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } ؛ ولهذا ورد في الأثر : أن حملة العرش يسبحون الله ، فيقول بعضهم : سبحانك على حلمك بعد علمك . ويقول بعضهم : سبحانك على عفوك بعد قدرتك . وفي الحديث الصحيح : " ما نقص مال من صدقة ، ولا{[8535]} زاد الله عبدا بعفو إلا عزًّا ، ومن تواضع لله رفعه الله " {[8536]} .
{ إن تبدوا خيرا } طاعة وبرا . { أو تخفوه } أو تفعلوه سرا . { أو تعفوا عن سوء } لكم المؤاخذة عليه ، وهو المقصود وذكر إبداء الخير وإخفائه تشبيب له ، ولذلك رتب عليه قوله . { فإن الله كان عفوا قديرا } أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فأنتم أولى بذلك ، وهو حث للمظلوم على العفو بعدما رخص له في الانتظار حملا على مكارم الأخلاق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.