في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{إِن تُبۡدُواْ خَيۡرًا أَوۡ تُخۡفُوهُ أَوۡ تَعۡفُواْ عَن سُوٓءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّٗا قَدِيرًا} (149)

148

ثم لا يقف السياق القرآني عند الحد السلبي في النهي عن الجهر بالسوء ؛ إنما يوجه إلى الخير الإيجابي عامة ؛ ويوجه إلى العفو عن السوء ؛ ويلوح بصفة الله سبحانه في العفو وهو قادر على الأخذ ، ليتخلق المؤمنون بأخلاق الله سبحانه فيما يملكون وما يستطيعون :

( إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء ، فإن الله كان عفوا قديرًا ) . .

وهكذا يرتفع المنهج التربوي بالنفس المؤمنة والجماعة المسلمة درجة أخرى . . في أول درجة يحدثهم عن كراهة الله - سبحانه - للجهر بالسوء . ويرخص لمن وقع عليه الظلم أن ينتصف أو يطلب النصف ، بالجهر بالسوء فيمن ظلمه ، ومما وقع عليه من الظلم . . وفي الدرجة الثانية يرتفع بهم جيمعا إلى فعل الخير ؛ ويرتفع بالنفس التي ظلمت - وهي تملك أن تنتصف من الظلم بالجهر - أن تعفو وتصفح - عن مقدرة فلا عفو بغير مقدرة - فيرتفع على الرغبة في الانتصاف إلى الرغبة في السماحة ؛ وهي أرفع وأصفى . .

عندئذ يشيع الخير في المجتمع المسلم إذا أبدوه . ويؤدي دوره في تربية النفوس وتزكيتها إذا أخفوه - فالخير طيب في السر طيب في العلن - وعندئذ يشيع العفو بين الناس ، فلا يكون للجهر بالسوء مجال . على أن يكون عفو القادر الذي يصدر عن سماحة النفس لا عن مذلة العجز ؛ وعلى أن يكون تخلقا بأخلاق الله ، الذي يقدر ويعفو :

فإن الله كان عفوا قديرًا .

بعد ذلك يأخذ السياق في جولة مع ( الذين أوتوا الكتاب ) بصفة عامة ! ثم ينتقل منها إلى اليهود في شوط ، وإلى النصارى في الشوط الآخر . . واليهود يجهرون بالسوء - إفكا وبهتانا - على مريم وعلى عيسى - ويأتي ذكر هذا الجهر في ثنايا الجولة ؛ فترتبط هذه الجولة بذلك البيان الذي تتضمنة الآيتان السابقتان في السياق .

والجولة كلها طرف من المعركة التي خاضها القرآن مع أعداء الجماعة المسلمة في المدينة . والتي سلفت منها في هذه السورة وفي سورتي البقرة وآل عمران أطراف أخرى . .

فنأخذ في استعراضها هنا كما وردت في السياق القرآني :