{ لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ( 148 ) إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا( 149 ) }
{ لا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ . . . }الخ
عبارة الآيتين واضحة وهما فصل جديد . ويلمح شيء من التناسب الموضوعي بينهما وبين الآية السابقة لهما مباشرة ، فإذا لم تكونا نزلتا بعدها فيكون وضعهما في مكانهما بسبب ذلك على ما يتبادر .
روى الخازن رواية في نزول الآية الأولى ، ورد صيغة مقاربة لها في سنن أبي داود عن أبي هريرة بهذا النص ( إن رجلا كان يسب أبا بكر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فصمت عنه أبو بكر ، ثم آذاه الثانية فصمت عنه ، ثم آذاه الثالثة ، فانتصر منه ، فقام رسول الله ، فقال أبو بكر : أوجدت علي يا رسول الله ؟ قال : نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك ، فلما انتصرت وقع الشيطان ، فلم أكن لأجلس إذا وقع الشيطان ) ){[692]} .
ويلحظ أن في الآية تبريرا لانتصار أبي بكر لنفسه في حين أن الحديث يذكر عدم رضاء النبي عن ذلك ، وأن الآية الثانية هي متممة للأولى ومنسجمة معها ، وهذا يسوغ الترجيح نزولهما معا . فإذا فرضنا أن حادث أبي بكر كان سبب نزولهما ، وليس نزول الآية الأولى فقط فإن الملاحظة الأولى تبقى واردة . إلا أن يقال : إن حكمة التنزيل اقتضت تبرير موقف أبي بكر ، ثم اقتضت ردف ذلك التبرير بالحث على العفو . ومهما يكن من أمر فيصح القول : إن الآيتين نزلتا في حادث سوء جهر به شخص ما . ولا ينفي هذا أن يكون هو الحادث الذي ذكر في الحديث . والله أعلم .
وقد جاءت الآيات بأسلوب مطلق عام لتكون عامة مستمرة المدى في ما احتوته من تعليم وتأديب وعظة وتلقين بما مفاده :
إن الجهر بالسوء مهما كان . وسواء أكان بذاءة أو شتيمة أو تعريضا أم تحريضا أم تقريعا أم سخرية أم استهتارا أو إشاعة فاحشة وشيوع ذلك بين المسلمين شيء قبيح لا يحبه الله تعالى .
ويستثنى من ذلك المظلوم الذي يقول ما يقول ردا على المعتدي بدءا .
ومع ذلك فعفو المسلمين عن بعضهم خير مستحب ، وفيه اقتداء بالله عز وجل الذي يعفو عن الناس ويسع حلمه ما يبدو منهم من مواقف فيها سوء أدب وجحود مع قدرته على البطش والانتقام . وليعلموا أن الله يعلم كل ما يصدر منهم من خير سواء أأبدوه أو أخفوه . وعليهم أن يفعلوا الخير على كل حال والعفو خير .
وبعض هذه التلقينات ورد في آيات سورة الشورى ( 39- 43 } ؛ على ما شرحناه في مناسبتها ؛ حيث يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذا الأمر ، كما هو في الأمور الأخرى . وقد يكون استثناء المظلوم وتبرير رده على ظالمه قد استهدف به عدم استشراء البذاءة والعدوان في المجتمع الإسلامي . وروح الآيات تلهم أن هذا لا ينبغي أن يكون إلا في نطاق هذا الهدف من جهة ، وأن العفو هو الأفضل إذا كان لا يؤدي إلا ذلك الاستشراء من جهة أخرى . وفي هذا تتمة للتلقين الذي انطوى في الآيتين .
ومما قاله المفسرون لأنفسهم أو لعلماء آخرين : إن من الواجب أن يكون رد المظلوم على الظالم بما ليس فيه عدوان وفحش وافتراء ، وهذا وجيه سديد .
هذا ، ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن تعبير { لا يحب الله الجهر بالسوء } هو أسلوبي يستهدف التأديب بالنص على قبح الجهر بالسوء ، وإنه لا يمكن أن يكون بمعنى أن الله عز وجل يرضى عن السوء إذا كان في مجلس خاص أو إذا كان صدر خفية من دون جهر علني . فالله سبحانه قد حرم الإثم والفواحش مطلقا ما ظهر منها وما بطن على السواء وآذان أنه لا يرضى ما بيت من سوء قولا وفعلا في آيات عديدة مكية ومدنية ، ومنها ما جاء في سور سبق تفسيرها مثل آيات الأنعام ( 130و151 ) والأعراف ( 33 ) والآيات ( 108و123 ) من هذه السورة ومنها ما جاء في سور يأتي تفسيرها بعد .
وهنا أحاديث نبوية ساق بعضها بعض المفسرين في سياق الآيتين متساوقة في التلقين معهما . من ذلك حديثان رواهما أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في أحدهما ( قال النبي : أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم ؟ قالوا : ومن أبو ضمضم ؟ قال : رجل فيمن كان قبلكم كان إذا أصبح قال : اللهم إني جعلت عرضي لمن شتمني ){[693]} وجاء في ثانيهما ( إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق . ومن الكبائر السبتان بالسبة ) {[694]} وحديث رواه البخاري جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته . وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) {[695]} وحديث رواه الترمذي جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء ) {[696]} وحديث رواه الترمذي أيضا جاء فيه( ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى إنهم يجعلون له ندا وولدا ، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ) {[697]} وحديث رواه مسلم جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) {[698]} وحديث رواه الأربعة جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) {[699]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.