قال تعالى -موبخا لهم على إقامتهم على ما هم عليه من الكفر والنفاق- : { أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } بما يصيبهم من البلايا والأمراض ، وبما يبتلون من الأوامر الإلهية التي يراد بها اختبارهم .
{ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ } عما هم عليه من الشر { وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ } ما ينفعهم ، فيفعلونه ، وما يضرهم ، فيتركونه .
فالله تعالى يبتليهم -كما هي سنته في سائر الأمم- بالسراء والضراء وبالأوامر والنواهي ليرجعوا إليه ، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون .
وفي هذه الآيات دليل على أن الإيمان يزيد وينقص ، وأنه ينبغي للمؤمن ، أن يتفقد إيمانه ويتعاهده ، فيجدده وينميه ، ليكون دائما في صعود .
وقبل أن يعرض السياق الصورة الثانية لاستجابتهم يسأل مستنكرا حال هؤلاء المنافقين الذين لا يعظهم الابتلاء ، ولا يردهم الامتحان :
( أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ? ) .
والفتنة كانت تكون بكشف سترهم ، أو بنصر المسلمين بدونهم ، أو بغيرهما من الصور ، وكانت دائمة الوقوع كثير التكرار في عهد الرسول [ ص ] وما يزال المنافقون يفتنون ولا يتوبون !
يقول تعالى : أولا يرى هؤلاء المنافقون{[14018]} { أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ } أي : يختبرون { فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي : لا يتوبون من ذنوبهم السالفة ، ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم .
قال مجاهد : يختبرون بالسَّنة والجوع .
وقال قتادة : بالغزو في السنة مرة أو مرتين .
وقال شريك ، عن جابر - هو الجعفي - عن أبي الضُّحى ، عن حذيفة : { أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } قال : كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين ، فيضل بها فئام من الناس كثير . رواه ابن جرير .
وفي الحديث عن أنس : " لا يزداد الأمر إلا شدة ، ولا يزداد الناس إلا شحا ، وما من عام إلا والذي بعده شر منه " ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم{[14019]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ مّرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ ثُمّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذّكّرُونَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : أوَ لا يَرَوْنَ فقرأته عامة قرّاء الأمصار : أوَ لا يَرَوْنَ بالياء ، بمعنى أو لا يرى هؤلاء الذين في قلوبهم مرض النفاق . وقرأ ذلك حمزة : «أوَ لا تَرَوْنَ » بالتاء ، بمعنى أو لا ترون أنتم أيها المؤمنون أنهم يفتنون ؟
والصواب عندنا من القراءة في ذلك : الياء ، على وجه التوبيخ من الله لهم ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه وصحة معناه : فتأويل الكلام إذا : أوَ لا يرى هؤلاء المنافقون أن الله يختبرهم في كلّ عام مرّة أو مرّتين ، بمعنى أنه يختبرهم في بعض الأعوام مرّة ، وفي بعضها مرّتين . ثم لا يَتُوبُونَ يقول : ثم هم مع البلاء الذي يحلّ بهم من الله والاختبار الذي يعرض لهم لا ينيبون من نفاقهم ، ولا يتوبون من كفرهم ، ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله ويعاينون من آياته ، فيعظوا بها ولكنهم مصرّون على نفاقهم .
واختلف أهل التأويل في معنى الفتنة التي ذكر الله في هذا الموضع أن هؤلاء المنافقين يفتنون بها ، فقال بعضهم : ذلك اختبار الله إياهم بالقحط والشدّة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوَ لا يَرَوْنَ أنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال : بالسنة والجوع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يُفْتَنون قال : يُبتلون ، في كلّ عام مَرّةً أوْ مَرّتَيْنِ قال : بالسنة والجوع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوَ لا يَرَوْنَ أنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال : يُبتلون بالعذاب في كل عام مرّة أو مرّتين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال : بالسنة والجوع .
وقال آخرون : بل معناه أنهم يختبرون بالغزو والجهاد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أوَ لا يَرَوْنَ أنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال : يُبتلون بالغزو في سبيل الله في كلّ عام مرّة أو مرّتين .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، مثله .
وقال آخرون : بل معناه : أنهم يختبرون بما يشيع المشركون من الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فيفتتن بذلك الذين في قلوبهم مرض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن أبي الضحى ، عن حذيفة : أوَ لا يَرَوْنَ أنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال : كنا نسمع في كلّ عام كذبة أو كذبتين ، فيضلّ بها فئام من الناس كثير .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي الضحى ، عن حذيفة ، قال : كان لهم في كلّ عام كذبة أو كذبتان .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : إن الله عجّب عباده المؤمنين من هؤلاء المنافقين ، ووبخ المنافقين في أنفسهم بقلة تذكرهم وسوء تنبههم لمواعظ الله التي يعظهم بها . وجائز أن تكون تلك المواعظ الشدائد التي يُنزلها بهم من الجوع والقحط ، وجائز أن تكون ما يريهم من نصرة رسوله على أهل الكفر به ويرزقه من إظهار كلمته على كلمتهم ، وجائز أن تكون ما يظهر للمسلمين من نفاقهم وخبث سرائرهم بركونهم إلى ما يسمعون من أراجيف المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . ولا خبر يوجب صحة بعض ذلك ، دون بعض من الوجه الذي يجب التسليم له ، ولا قول في ذلك أولى بالصواب من التسليم لظاهر قول الله ، وهو : أو لا يرون أنهم يختبرون في كلّ عام مرّة أو مرّتين بما يكون زاجرا لهم ثم لا ينزجرون ولا يتعظون .
عطف على جملة { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] إلى آخره فهي من تمام التفصيل .
وقدّمت همزة الاستفهام على حرف العطف على طريقة تصدير أدوات الاستفهام . والتصدير للتنبيه على أن الجملة في غرض الاستفهام .
والاستفهام هنا إنكار وتعجيب لعدم رؤيتهم فتنتهم فلا تعقبها توبتهم ولا تذكّرهم أمر ربهم . والغرض من هذا الإنكار هو الاستدلال على ما تقدم من ازدياد كفر المنافقين وتمكنه كلما نزلت سورة من القرآن بإيراد دليل واضح يُنَزَّلُ منزلة المحسوس المرئيّ حتى يَتوجه الإنكار على من لا يراه .
والفتنة : اختلال نظام الحالة المعتادة للناس واضطرابُ أمرهم ، مثل الأمراض المنتشرة ، والتقاتل ، واستمرار الخوف . وقد تقدم ذكرها عند قوله : { والفتنة أشد من القتل } [ البقرة : 191 ] وقوله : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } في سورة البقرة ( 193 ) .
فمعنى { أنهم يفتنون } أن الله يسلط عليهم المصائب والمضار تنال جماعتهم مما لا يُعتاد تكرر أمثاله في حياة الأمم بحيث يدل تكرر ذلك على أنه مراد منه إيقاظ اللّهِ الناس إلى سوء سيرتهم في جانب الله تعالى ، بعدم اهتدائهم إلى الإقلاع عما هم فيه من العناد للنبيء صلى الله عليه وسلم فإنهم لو رزقوا التوفيق لأفاقوا من غفلتهم ، فعلِموا أن ما يحل بهم كل عام ما طرأ عليهم إلا من وقت تلبسهم بالنفاق .
ولا شك أن الفتنة التي أشارت إليها الآية كانت خاصة بأهل النفاق من أمراض تحل بهم ، أو متالف تصيب أموالهم ، أو جوائح تصيب ثمارهم ، أو نقص من أنفسهم ومواليدهم ؛ فإذا حصل شيئان من ذلك في السنة كانت الفتنة مرتين .
وقرأ الجمهور { أولا يَرون } بالمثناة التحتية . وقرأ حمزة ويعقوب { أولا ترون } بالمثناة الفوقية على أن الخطاب للمسلمين ، فيكون من تنزيل الرائي منزلة غيره حتى ينكر عليه عدم رؤيته مَا لا يخفى .
و { ثم } للترتيب الرتبي لأن المعطوف بها هو زائد في رتبة التعجيب من شأنه على المعطوف عليه ، فإن حصول الفتنة في ذاته عجيب ، وعدم اهتدائهم للتدارك بالتوبة والتذكر أعجب . ولو كانت ( ثم ) للتراخي الحقيقي لكان محل التعجيب من حالهم هو تأخر توبتهم وتذكرهم .
وأتي بجملة { ولا هم يذكرون } مبتدأة باسم أسند إليه فعل ولم يقل : ولا يذكرون ، قصداً لإفادة التقوي ، أي انتفاء تذكرهم محقق .