البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَوَلَا يَرَوۡنَ أَنَّهُمۡ يُفۡتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوۡ مَرَّتَيۡنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمۡ يَذَّكَّرُونَ} (126)

{ أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون } : لما ذكر أنهم بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة ، ذكر أنهم أيضاً في الدنيا لا يخلصون من عذابها .

والضمير في يرون عائد على الذين في قلوبهم مرض ، وذلك على قراءة الجمهور بالياء .

وقرأ حمزة : بالتاء خطاباً للمؤمنين .

والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب ، ومن رؤية البصر .

وقرأ أبي وابن مسعود ، والأعمش : أو لا ترى أي أنت يا محمد ؟ وعن الأعمش أيضاً : أو لم تروا ؟ وقال أبو حاتم عنه : أو لم يروا ؟ قال مجاهد : يفتنون ، يختبرون بالسنة والجوع .

وقال النقاش عنه : مرضة أو مرضتين .

وقال الحسن وقتادة : يختبرون بالأمر بالجهاد .

قال ابن عطية : والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم ، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة .

وأما الجهاد أو الجوع فلا يترتب معهما ما ذكرناه ، فمعنى الآية على هذا : أفلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد واحد ، ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون ، ويذكرون وعد الله ووعيده انتهى .

وقاله مختصراً مقاتل قال : يفضحون بإظهار نفاقهم ، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين ، وقد كان الحسن ينشد :

أفي كل عام مرضة ثم نقهة *** فحتى متى حتى متى وإلى متى

وقالت فرقة : معنى يفتنون بما يشيعه المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأكاذيب والأراجيف ، وأنّ ملوك الروم قاصدون بجيوشهم وجموعهم إليهم ، وإليه الإشارة بقوله : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } فكان الذين في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك .

وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة ، وهو غريب من المعنى .

وقال الزمخشري : يفتنون يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله تعالى ، ثم لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم ، ولا يذكرون ولا يعتبرون ولا ينظرون في أمرهم ، أو يبتلون بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله تعالى عليه من النصر وتأييده ، أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم ، ثم لا ينزجرون .

وقرأ ابن مسعود : ولا هم يتذكرون .