{ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي : جنات إقامة ، لا ظعن فيها ولا رحيل ، ولا طلب لغاية فوقها ، { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه ، ورضوا عنه ، بما أعد لهم من أنواع الكرامات وجزيل المثوبات { ذَلِكَ } الجزاء الحسن { لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } أي : لمن خاف الله ، فأحجم عن معاصيه ، وقام بواجباته{[1]}
( جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ) . .
جنات للإقامة الدائمة في نعيمها الذي يمثله هنا الأمن من الفناء والفوات . والطمأنينة من القلق الذي يعكر وينغص كل طيبات الأرض . . كما يمثله جريان الأنهار من تحتها ، وهو يلقي ظلال النداوة والحياة والجمال !
ثم يرتقي السياق درجة أو درجات في تصوير هذا النعيم المقيم :
( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) . .
هذا الرضا من الله وهو أعلى وأندى من كل نعيم . وهذا الراضا في نفوسهم عن ربهم الرضا عن قدره فيهم . والرضا عن إنعامه عليهم والرضا بهذه الصلة بينه وبينهم . الرضا الذي يغمر النفس بالهدوء والطمأنينة والفرح الخالص العميق . .
إنه تعبير يلقي ظلاله بذاته . . ( رضي الله عنهم ورضوا عنه )حيث يعجز أي تعبير آخر عن إلقاء مثل هذه الظلال !
وذلك هو التوكيد الأخير . التوكيد على أن هذا كله متوقف على صلة القلب بالله ، ونوع هذه الصلة ، والشعور بخشيته خشية تدفع إلى كل صلاح ، وتنهى عن كل انحراف . . الشعور الذي يزيح الحواجز ، ويرفع الأستار ، ويقف القلب عاريا أمام الواحد القهار . والذي يخلص العبادة ويخلص العمل من شوائب الرياء والشرك في كل صورة من صوره . فالذي يخشى ربه حقا لا يملك أن يخطر في قلبه ظلا لغيره من خلقه . وهو يعلم أن الله يرد كل عمل ينظر فيه العبد إلى غيره معه ، فهو أغنى الشركاء عن الشرك . فإما عمل خالص له ، وإلا لم يقبله .
ثم قال : { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : يوم القيامة ، { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } أي : بلا انفصال ولا انقضاء ولا فراغ .
{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ومقام رضاه عنهم أعلى مما أوتوه من النعيم المقيم ، { وَرَضُوا عَنْهُ } فيما منحهم من الفضل العميم .
وقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } أي : هذا الجزاء حاصل لمن خشي الله واتقاه حق تقواه ، وعبده كأنه يراه ، وقد علم أنه إن لم يره فإنه يراه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا أبو معشر ، عن أبي وهب - مولى أبي هريرة - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بخير البرية ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله . قال : " رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، كلما كانت هَيْعَة استوى عليه . ألا أخبركم بخير البرية ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله . قال : " رجل في ثُلَّة من غنمه ، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة . ألا أخبركم بشر{[30370]} البرية ؟ " . قالوا : بلى . قال : " الذي يَسأل بالله ، ولا يُعطي به " {[30371]} .
آخر تفسير سورة " لم يكن " {[30372]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رّضِىَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبّهُ } .
يقول تعالى ذكره : ثواب هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم يوم القيامة جَنّاتُ عَدْنٍ ، يعني بساتين إقامَة لاظَعْن فيها ، تجري من تحت أشجارها الأنهار خالِدِينَ فِيها أبَدا يقول : ماكثين فيها أبدا ، لا يخرجون عنها ، ولا يموتون فيها { رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ } بما أطاعوه في الدنيا ، وعملوا لخلاصهم من عقابه في ذلك { وَرَضُوا عَنْهُ } بما أعطاهم من الثواب يومئذٍ ، على طاعتهم ربهم في الدنيا ، وجزاهم عليها من الكرامة .
وقوله : { ذَلكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبّهُ } يقول تعالى ذكره : هذا الخير الذي وصفته ، ووعدته الذين آمنوا وعملوا الصالحات يوم القيامة ، { لمن خشي ربه } يقول : لمن خاف الله في الدنيا في سرّه وعلانيته ، فاتقاه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ، وبالله التوفيق .
{ جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم وروضا عنه } .
وجملة : { جزاؤهم عند ربهم جنات عدن } إلى آخرها مبيِّنة لجملة : { أولئك هم خير البريئة } .
و { عند ربهم } ظرف وقع اعتراضاً بين { جزاؤهم } وبين { جنات عدن } للتنويه بعِظَم الجزاء بأنه مدَّخر لهم عند ربهم تكرمةً لهم لما في { عند } من الإِيماء إلى الحظوة والعناية ، وما في لفظ ربهم من الإِيماء إلى إجزال الجزاء بما يناسب عظم المضاف إليه { عندَ } ، وما يناسب شأن من يَرُب أن يبلغ بمربوبه عظيم الإحسان .
وإضافة : { جنات } إلى { عدن } لإِفادة أنها مسكنهم لأن العَدْن الإِقامة ، أي ليس جزاؤهم تنزهاً في الجنات بل أقوى من ذلك بالإِقامة فيها .
وقوله : { خالدين فيها أبداً } بشارة بأنها مسكنهم الخالد .
ووصف الجنات ب { تجري من تحتها الأنهار } لبيان منتهى حسنها .
وجَرْيُ النهر مستعار لانتقال السيْل تشبيهاً لسرعة انتقال الماء بسرعة المشي .
والنهر : أخدود عظيم في الأرض يسيل فيه الماء فلا يطلق إلا على مجموع الأخدود ومائه . وإسناد الجري إلى الأنهار توسع في الكلام لأن الذي يجري هو ماؤها وهو المعتبر في ماهية النهر .
وجعل جزاء الجماعة جمعَ الجنات فيجوز أن يكون على وجه التوزيع ، أي لكل واحد جنة كقوله تعالى : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } [ البقرة : 19 ] وقولك : ركب القوم دوابَّهم ، ويجوز أن يكون لكل أحد جنات متعددة والفضل لا ينحصر قال تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } [ الرحمن : 46 ] .
وجملة : { رضي الله عنهم } حال من ضمير { خالدين } ، أي خالدين خلوداً مقارناً لرضى الله عنهم ، فهم في مدة خلودهم فيها محفوفون بآثار رضى الله عنهم ، وذلك أعظم مراتب الكرامة قال تعالى : { ورضوان من اللَّه أكبر } [ التوبة : 72 ] ورِضَى الله تعلق إحسانه وإكرامه لعبده .
وأما الرضى في قوله : { ورضوا عنه } فهو كناية عن كونهم نالهم من إحسان الله ما لا مطلب لهم فوقه كقول أبي بكر في حديث الغار : « فشَرب حتى رضيتَ » ، وقول مخرمة حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قَباءً : « رَضِيَ مخرمة » . وزاده حُسْن وقع هنا ما فيه من المشاكلة .
{ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ ربه } .
تذييل آت على ما تقدم من الوعد للذين آمنوا والوعيد للذين كفروا بُيّن به سبب العطاء وسبب الحرمان وهو خشية الله تعالى بمنطوق الصلة ومفهومها .
والإِشارة إلى الجزاء المذكور في قوله : { جزاؤهم عند ربهم } يعني أن السبب الذي أنالهم ذلك الجزاء هو خشيتهم الله فإنهم لما خشوا الله توقعوا غضبه إذا لم يصغوا إلى من يقول لهم : إني رسول الله إليكم ، فأقبلوا على النظر في دلائل صدق الرسول فاهتدوا وآمنوا ، وأما الذين آثروا حظوظ الدنيا فأعرضوا عن دعوة رسول من عند الله ولم يتوقعوا غضب مرسله فبقوا في ضلالهم .
فما صدْقُ : « من خشي ربه » هم المؤمنون ، واللام للملك ، أي ذلك الجزاء للمؤمنين الذين خشوا ربهم فإذا كان ذلك ملكاً لهم لم يكن شيء منه ملكاً لغيرهم فأفاد حرمان الكفرة المتقدم ذكرهم وتم التذييل .
وفي ذكر الرب هنا دون أن يقال : ذلك لمن خشي الله ، تعريض بأن الكفار لم يرعوا حق الربوبية إذ لم يخشوا ربهم فهم عبيد سوء .